نايف سالم – الكويت
«أساس ميديا»
ليل السبت 7 أيلول الحالي، عبَرَت سيارة عراقية الحدود مع الكويت آتية عبر البصرة في جنوب بلاد الرافدين، لتطوي 34 سنة من المنع منذ قام نظام صدّام حسين بغزو الكويت في صيف عام 1990.
دخلت الجماهير العراقية أرض الكويت للمرّة الأولى عبر البرّ لمتابعة مباراة منتخبَي البلدين التي استضافتها الكويت مساء الثلاثاء الماضي ضمن تصفيات كأس العالم 2026، وشكّلت مناسبة لإعطاء مزيد من الدفع للعلاقات التي “تتحوّل إلى دافئة لكن بشكل بطيء”.
على الرغم من زلّة لسان أحد المسؤولين العراقيين، وبلبلة رافقت أعداد المشجّعين العراقيين، فإنّه بالنظر إلى ما رافق المباراة وسبقها وتلاها من تفاعل إيجابي بين الشعبين، يمكن القول “طاح الحطب” (مصطلح كويتي يشير إلى انتهاء الجفاء وعودة حالة الرضا).
منذ سقوط نظام صدّام في 2003، أبدت الكويت إيجابية كبرى تجاه الجار العراقي على الرغم من الجراح الغائرة، وعملت على دعم النظام الجديد من خلال المبادرات الإنسانية التي لطالما اتّسمت بها الدبلوماسية الكويتية.
توالت التبرّعات بملايين الدولارات من 2008 وصولاً إلى 2018، عندما استضافت الكويت مؤتمراً دولياً لإعادة إعمار العراق بعد تحرير الموصل، حصَدَ تعهّدات من الدول والجهات المشاركة بحوالي 30 مليار دولار أميركي بين تبرّعات وقروض وتسهيلات ائتمانية.
تُوّج هذا المسار في حزيران 2019 بزيارة قام بها أمير الكويت الراحل الشيخ صباح الأحمد لبغداد لفتح صفحة جديدة بين البلدين، ووضع مسار لطيّ الملفّات العالقة.
وبالفعل، تواصل لاحقاً التعاون الإيجابي من خلال قيام بغداد بتسليم الكويت رفات العديد من الشهداء والمفقودين، ودفعات من الممتلكات والأرشيف الوطني الكويتي الذي تمّ الاستيلاء عليه إبّان فترة الاحتلال العراقي.
في شباط 2022، سدّد العراق للكويت آخر دفعة من التعويضات المرتبطة بالغزو، والتي بلغت 52 مليار دولار، عبر لجنة التعويضات التابعة للأمم المتحدة التي أشرفت على الدفع من خلال اقتطاع أجزاء من مبيعات النفط العراقي بنسب متفاوتة على مدى حوالي 30 عاماً.
الملفّات العالقة
تعرّض هذا المسار الإيجابي لانتكاسة في السنوات القليلة الماضية مع جمود ملفّ ترسيم الحدود البحرية بين البلدين لما بعد العلامة 162، وهي النقطة الأخيرة التي عيّنها البلدان في المراسلات بينهما قبيل الغزو وتقع في أقصى جنوب خور عبد الله وفي منتصف المسافة بين جزيرة بوبيان وشبه جزيرة الفاو.
بين 2010 و2011، وعلى ضفّتين متقابلتين، وضع العراق حجر الأساس لإقامة ميناء الفاو، فيما وضعت الكويت حجر الأساس لإقامة ميناء مبارك الكبير في جزيرة بوبيان. ويخوض البلدان حالياً سباقاً مع الوقت لتشغيل الميناءين غير المكتملين.
شكّل عام 2023 منعطفاً مع إصدار المحكمة الاتحادية العليا في العراق حكماً قضى بإبطال التصويت على اتفاقية الملاحة البحرية في خور عبد الله التي صدّقها البرلمان العراقي في 2013 (يمكن مراجعة مقال “أساس” المنشور بتاريخ 19/9/2023 بعنوان “الكويت والعراق: من نفَخَ الرماد؟”).
منذ ذلك الوقت، لا يخلو بيان رسمي في أيّ زيارة يقوم بها قادة ومسؤولو الكويت أو في أيّ مناسبة تشارك فيها الكويت في محفل عربي أو إقليمي أو دولي، من الإشارة إلى مطالبة العراق باستكمال ترسيم الحدود البحرية، والالتزام بالاتفاقيات الموقّعة والمرجعيات الدولية.
وفي حين تكتنف الملفّ السياسي حالة من الجمود نتيجة عوامل متشعّبة، قفز الملفّ الشعبي إلى الواجهة مع مباراة المنتخبين في تصفيات كأس العالم التي استضافتها الكويت الثلاثاء 10 أيلول الحالي.
المطيري ودرجال
لم تكن المرّة الأولى التي “يتنافس” فيها البلدان رياضيّاً، لكنّها المرّة الأولى التي يُسمح فيها لآلاف السيارات العراقية بعبور الحدود عبر منفذ سفوان/العبدلي لدخول الأراضي الكويتية، والمرّة الأولى أيضاً التي يدخل فيها 5 آلاف عراقي إلى الكويت دفعة واحدة.
جاء ذلك ضمن حلقة من “دبلوماسية كرة القدم” لإصلاح العلاقات بين العراق ودول مجلس التعاون الخليجي، الذي بدأ باستضافة العراق بطولة كأس الخليج في البصرة (نهاية كانون الأول 2022 – بداية كانون الثاني 2023)، بعد غياب دام 44 عاماً، ومن المفترض أن يستمرّ مع استضافة الكويت البطولة نفسها بعد أشهر قليلة (نهاية كانون الأول 2024 – بداية كانون الثاني 2025).
بدا كلّ شيء سلساً حتى جاء تصريح رئيس الاتحاد الكويتي لكرة القدم هايف المطيري، قبل المباراة بأيام، بالسماح بدخول 200 مشجّع عراقي فقط، ليردّ عليه محافظ البصرة أسعد العيداني بأنّ العراق سيُعامل الكويت بالمثل في مباراة الإياب.
وبعد تراشق في الفضاء الإلكتروني، حسمت الحكومة الكويتية الأمر بإعلانها السماح بدخول 5 آلاف مشجّع عراقي، وفق ما تنصّ عليه اللوائح الدولية.
ما كادت هذه الأزمة تنحسر، حتى برزت أخرى مع زلّة لسان لرئيس الاتحاد العراقي لكرة القدم عدنان درجال الذي وصف الكويت بالمحافظة قبل أن يستدرك سريعاً.
في تصريح له خلال حديث لوسائل إعلامية، قال إنّ اللاعب أيمن حسين تعرّض لإصابة خلال مباراة بين العراق وعُمان التي أقيمت في البصرة، وإنّ إصابته بنزيف داخلي كانت صعبة، “لذلك قرّرنا سرعة نقل اللاعب لمحافظة..”، ليُعدّل اللفظ سريعاً ويقول: “عفواً لدولة الكويت الشقيقة، التي سهّلت نقل اللاعب إلى أحد المستشفيات فيها”، في إشارة إلى أنّ السلطات العراقية فضّلت نقل اللاعب إلى الكويت لأنّها أقرب إلى البصرة من العاصمة بغداد.
مع أنّ درجال تدارك زلّة اللسان، لكنّ محامين كويتيّين أقاموا دعاوى ضدّه وطالبوا بمنع دخوله الكويت، ليس فقط على خلفية تصريحه الأخير، وإنّما لما يتردّد دائماً عن دور له في “نهب دولة الكويت والأندية الكويتية بقرار جمهوري أثناء الغزو العراقي”، كما ورد في إحدى الدعاوى، المتوقّع أن تنظرها المحكمة الإدارية في 6 تشرين الثاني المقبل.
أجواء وئام
باستثناء هذين الحدثين، سارت الأمور على ما يرام ودخل العراقيون حاملين لافتات تحمل عبارات مودّة للشعب الكويتي.
خيّمت الأجواء الإيجابية لدرجة أنّ بعض المشجّعين العراقيين قالوا أثناء المباراة إنّ الخسارة مع الكويت (لو حدثت) سيعتبرونها فوزاً بالنسبة لهم، بالنظر إلى كرم الضيافة الذي أبداه الكويتيون أثناء استقبالهم العراقيين على المستويَين الرسمي والشعبي.
من جهته، شدّد مدير الإعلام في الاتحاد العراقي لكرة القدم على أنّه لا يجوز إقحام الشباب في البلدين بصراعات لا ذنب لهم بها: “حكومات تبدّلت، مدرّبون تغيّروا… لا يمكن لهذا الجيل أن يدفع ثمن أجيال سابقة”.
قال عامر الحكيم، وهو مشجّع عراقي، لوكالة “رويترز”، “أتمنّى مخلّفات النظام السابق إن شاء الله تموت بهاي الأجيال الواعية، لأنّ العالم صار قرية صغيرة والناس كلّها عرفت أنّ الشعب العراقي ما ليه ذنب باللي صار بسبب صدّام حسين”.
انتهت المباراة بالتعادل السلبي وخرج المنتخبان “حبايب”، بانتظار الموعد الجديد للكويتيين في مباراة الإياب بالعراق، وللعراقيين في كأس الخليج بالكويت، لكن في كلّ الأحوال بات جليّاً أنّ “الحطب طاح” شعبيّاً، وأنّه يمكن البناء على تعزيز الأواصر الشعبية لإحداث خرق في الملفّات السياسية.
نايف سالم – الكويت