بقلم د. ابراهيم العرب
إنّ الرئيس الشيخ سعد الحريري ليس مجرد واضع لسياسات اقتصادية، بل هو شخصية محورية تمتلك شبكة علاقات واسعة مع الأفرقاء السياسيين، ومشروعًا وطنيًا يحظى بدعم دَوْليّ، لاسيما من فرنسا ومصر والإمارات. كما أن هذا الدعم جعله ركيزة أساسية في توازنات اللعبة السياسية اللبنانية، مهما غاب عن الساحة؛ ذلك أن علاقاته بالقوى الداخلية من أحزاب ووزراء ونواب ومدراء عامين ورجال أعمال، جعلته يحتفظ دومًا بدوره الريادي في العمل السياسي اللبناني.
لقد برع الحريري في التعامل مع التوازنات الخارجية المرتبطة بتشابك المصالح اللبنانية-العربية والسياسة الفرنسية في الشرق الأوسط المعنية بالداخل اللبناني. إضافة إلى إجادته للدور الوطني الذي تعلّمه من والده الشهيد الرئيس رفيق الحريري، رحمه الله، والذي كان يهيئه منذ صغره لاستكمال مسيرته السياسية، لشدّة حبه له.
وعلى الرغم من غيابه في السنوات الماضية، بقي الشيخ سعد حاضرًا معنويًا في وطنه، وبقي كذلك الزعيم الأقوى للسنة في بيروت، وصيدا، وطرابلس، وعكار والإقليم، وكافة أرجاء المعمورة، ذلك أن مساهماته في دعم أهل السنة والجماعة إنسانيًا واجتماعيًا وصحيًا لم تتوقف في أي يوم من الأيام، بل استمرت مع جهود صديقيه المقربين رئيس جمعية التنمية الاجتماعية الحاج أحمد هاشمية ورجل الأعمال المشهور الحاج جهاد العرب، رئيس جمعية آل العرب والداعم لعدد كبير من الجمعيات الخيرية البيروتية؛ ولا ننسى دور العمّة النائب بهية الحريري وأولادها الأمين العام للتيار أحمد وشقيقه نادر الحريري الداعمين لبقاء الحريرية السياسية فاعلة ونشطة أيضًا.
لقد استمرت شعبية الشيخ سعد نظرًا لأنه سبق أن تولى قيادة تيار المستقبل منذ عام 2005 وشغل منصب رئيس الوزراء مرتين من 2009 إلى 2011، ولاحقًا من 2016 إلى 2020، فضلًا على أنه أدّى دورًا رئيسيًا في الحوار الوطني بين مختلف الأطراف السياسية في لبنان، وسعى إلى تخفيف التوترات الطائفية وتعزيز الوحدة الوطنية. لذلك، يعتبر سعد الحريري قامة سياسية كبيرة ورمزًا للاعتدال السني في لبنان والوحدة الوطنية والتعايش بين مختلف الطوائف والمذاهب.
وفي بلد طائفي يرى أكثرية المسيحيين فيه أنه يشكل حصة فرنسا في المنطقة، فيمَا يرى السنة فيه أنه الحديقة الخلفية للرياض وقطر والإمارات، أما الشيعة فيعتبرون أن لإيران الدور المتعاظم فيه، لا يمكننا للأسف التوصل لانتخاب رئيس جمهورية جديد دون إجراء تسوية أميركية فرنسية إيرانية خليجية. وبكل صراحة، فإن عرّابي هذه التسوية اليوم المتمثلين باللجنة الخماسية للدول الصديقة للبنان لا يرغبون في تعديل اتفاق الطائف وإجراء اتفاق دوحة جديد أو الانتقال من المناصفة للمثالثة، وإنما يأملون بالتوصل إلى مخرج من هذه الأزمة من خلال انتخاب رئيس جمهورية محسوب على طرف ورئيس حكومة محسوب على طرف معاكس.
علاوة على ذلك، فطالمَا أن الموقف السعودي من عودة الحريري لرئاسة الحكومة كانت مرتبطة بعدة تطورات، أبرزها الموقف الأميركي والفرنسي الداعم لوسطية الحريري واعتداله، فبحسب ما هو متداول في الأوساط السياسية، لم يعد هنالك مانع لدى الرياض من عودة الشيخ سعد الحريري وتوليه رئاسة الحكومة.
من هذا المنطلق، وبعدما ثبت للجميع أن شعبية الشيخ سعد الحريري هي الأقوى والأبرز على الساحة السنية، وبعدما تبيّن للمجتمعين الدَّوْليّ والعربي أنه يمثل الشخصية المحورية التي تحظى بقبول كافة الأطراف نظرًا لاعتداله واعتماده الخطاب المتّزن الجامع لكافة القِوَى السياسية الداخلية، فإن اسمه يتصدر الأسماء المرجّحة تولي منصب رئاسة الوزراء في الحكومة المقبلة للتخفيف من حدة التوترات الطائفية، وإعادة التركيز على الحوار الوطني البنّاء والحفاظ على السلم الأهلي وتطبيق مقررات الشرعية الدولية، وتقريب لبنان من محور الاعتدال قدر الإمكان.
ولذلك، تعقد لقاءات كثيرة في الإمارات مع الشيخ سعد الحريري وهنالك تواصل دائم بينه وبين مفاتيحه السياسية في المناطق المختلفة، ومتابعات حثيثة مع المنسقين. كل هذا، يترافق مع جهود أصدقائه المقربين الذين يُلبون إشاراته الآتية من أبو ظبي، مع اجتهاداتهم البنيوية المتعلقة بالتفاصيل، فالحاج أحمد هاشمية تمكن من ترميم العلاقات مع كافة السياسيين السنة، وتمكن أيضًا من متابعة النواب الجدد بعناية فائقة لضمان تعاونهم المستمر مع الحريرية السياسية. كما ظهرت حركة نشطة للمكتب التنفيذي للتيار الأزرق، وتحضير لأرضية شعبية وسياسية، وإعادة تواصل مع جمهور التيار؛ كما جرى العمل على ترتيب العلاقات مع القِوَى المسيحية الوسطية المحسوبة على حريرية الشيخ سعد السياسية.
بناءً عليه، في ظل تعاظم الدعم الفرنسي والروسي والإماراتي والمصري للحريري، بدأت حملات شعبية تدعو لعودته النهائية، مشيرة لوجود اقتناع دَوْليّ وعربي بأن أحدًا غيره لن ينجح في إعادة أهل السنة والجماعة إلى صدارة العمل السياسي اللبناني الوسطي، كما كان الحال عليه إبان حقبة والده الشهيد الرئيس رفيق الحريري، ورفيق دربه، كبير عائلتنا الشهيد أبو طارق العرب، رحمة الله عليهما وعلى سائر الشهداء الأبرار الذين قضوا معهما. ولا نخفي عليكم، بأن هنالك مصادر مطلعة أكدت أن عودة رئيس «التيار الأزرق» صارت مرجّحة في مطلع العام 2025، حيث يربط هؤلاء العودة بتسوية تعيد الاتفاق على رئيس جمهورية جديد لا يمكن أن يقوم دون الضلع السني، الذي يُعتبر مرشحه الأبرز لرئاسة الحكومة الشيخ سعد الحريري؛ مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه العودة تعني الاستعداد للانتخابات النيابية المقبلة عام 2026، أو ربما انتخابات مبكرة في حال رست التسويات على ذلك؛ وعمومًا كل شيء متوقع في ظل كل هذا الاحتقان الطائفي الراهن بين الأحزاب السياسية اللبنانية المختلفة.
ختامًا، إن عودة الشيخ سعد في مطلع العام 2025 هي عنوان لمزيد من التعاضد بين مكونات الشعب اللبناني؛ وهذا هو عنوان التعايش والانصهار الوطني، ومناسبة لشد أواصر المحبة التي تربط اللبنانيين بعضُهم ببعض البعض، لاسيما أن الحريري حريص على انتخاب رئيس جمهورية جديد للبنان في أقرب وقت ممكن، وعلى إجراء الإصلاحات الاقتصادية والإدارية التي طال انتظارها. نأمل بإذن الله أن تكون عودته المرتقبة صفحة جديدة نحو تنمية مؤسسات لبنان الدستورية وتطويرها، وإقامة الدولة المدنية القوية القادرة المنشودة.
د. ابراهيم العرب