بقلم كلير شكر
«اساس ميديا»
أما وقد دخل اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ منذ صباح 27 الجاري، ليشكّل حدّاً فاصلاً بين ما قبله وما بعده، ويدشّن مرحلة جديدة كليّاً، تحكمها البنود الـ13 للترتيبات التي أُرفقت بالقرار 1701، والتي وصفها قرار مجلس الوزراء رقم 1 تاريخ 11/10/2024 بأنّها “جزءٌ لا يتجزّأ من القرار”، فقد صار مشروعاً البحث عن طبيعة هذه المرحلة.
تنوّعت قراءات القوى المحلّية والإقليمية والدولية لِما حملته المشاورات الدبلوماسية ووثّقته في تلك الترتيبات، إلى حدّ التضارب والتناقض فيما بينها، حتى بدا خطّ الالتقاء بين وجهات النظر هذه مشوّشاً، إن لم نقل خفيّاً، عصيّاً على الرسم.
يرى البعض أنّ المحصّلة النهائية للأعمال العسكرية وللورشة الدبلوماسية أفضت إلى انخراط لبنان في لعبة تغيير كبيرة تطال كلّ جغرافية منطقة الشرق الأوسط على مشارف دخول دونالد ترامب البيت الأبيض، وهو الباحث عن صفقات تجارية واقتصادية تعيد تعويم الاقتصاد الأميركي، وهو لذلك كاره للحروب وأكلافها المالية.
يذهب هؤلاء إلى حدّ الجزم أنّ القوّة الدولية التي يتمتّع بها القرار الأممي، بترتيباته الجديدة، المنقّحة، تحميها مظلّة التقاطع الأميركي – الإيراني، وهي بمنزلة سيف مصلت فوق سلاح “الحزب”، سيستحيل بفعلها تجاوز الضوابط والقواعد المفروضة عليه بشكل تصعب إعادة تسلّحه من جديد، وهو ما يدفع إلى الاعتقاد أنّ القرار الدولي بإضعاف “الحزب” لا ينبع فقط من النتائج العملانية للعدوان الإسرائيلي وتبعاته على واقع الترسانة العسكرية وحجمها، وإنّما من الأثمان التي اضطرّت طهران إلى تكبّدها لكي تكون مقبولة على طاولة التفاوض مع واشنطن بـ”وجهها الترامبيّ”. وهذا يعني أنّ العودة بسلاح “الحزب” إلى الوراء صارت صعبةً أو بالأحرى غير مقبولة. ولا بدّ بالتالي للحزب من البحث عن استراتيجية ردع سياسي تشبه اليوم التالي لـ”ولادته” الجديدة” من الحرب.
تجربة 2006 ماثلة
في المقابل، ثمّة وجهة نظر مناقضة كليّاً ترسم سيناريوهات مختلفة، مستولدة من رحم تجربة حرب 2006 التي خرج منها الحزب ضعيفاً، لكنّه تمكّن فيما بعد من إعادة بناء ترسانته العسكرية وتعزيزها بعد تجويف القرار الدولي. وفق هؤلاء، “الحزب” وتبعاً لسياسة “بلع الموس”، سيعضّ على الجرح وسيقضم كلّ مندرجات الترتيبات الأمنيّة الجديدة ليتراجع تكتيكيّاً إلى خلف الليطاني، كما تقتضي الضوابط الدولية. ومن خلفه، ستعود إيران قليلاً إلى الوراء، لتهضم مرحلة وصول ترامب والشروط المفروضة عليها لكي تعود إلى طاولة المفاوضات الدولية.
لكنّ الأمر قد يتغيّر بعد مرور عواصف التغيير، لتعود قواعد تسليح “الحزب” إلى حالها حتى لو واجه محاولات تضييق كثيرة بفعل سطوة الترتيبات الأمنية، سواء جنوب الليطاني أو عبر الحدود الشرقية البرّية. بالنسبة لأصحاب وجهة النظر هذه، لن تضحّي إيران بكلّ هذا الاستثمار الذي صار عمره عقوداً من الزمن وكبّدها مليارات من الدولارات، حتى لو اضطرّها الأمر إلى تقديم بعض التنازلات “على الطريق”.
أسئلة تحاكي الواقع
بين تلك القراءات، ثمّة أسئلة تحاكي الواقع العملاني بعيداً عن نظريّات الوثائق، لا تزال من دون إجابات واضحة:
– أين تكمن قوّة الترتيبات الأمنيّة الجديدة؟ ما الذي يجعلها عصيّة على الخرق؟ الجيش؟ الإشراف الأميركي؟ أم تبقى قاصرة إذا لم تُدعّم باتّفاق أميركي – إيراني؟
– أين التمايز الفعليّ عن سيناريو تبعات حرب 2006 حين أفرغت إسرائيل كما “الحزب” مع الوقت القرار 1701 من مضمونه ليبقى منه حبره؟ وهل أطبِقت الحدود الشرقية؟
– هل ما تشهده الأيام الأخيرة من خروقات من الجانب الإسرائيلي، هو تكريس لواقع جديد قد يتجاوز مهلة الستّين يوماً المحدّدة للهدنة تحت عنوان “حقّ التدخّل”؟ أم عودة المستوطنين إلى قراهم شمال إسرائيل قد تبدّل الحال؟
– إلى متى ستبقى العين الدولية، وتحديداً الأميركية، حاضرة على الجغرافية اللبنانية؟ وهل يصير الجنرال جاسبر جيفرز، الذي سيشغل منصب الرئيس المشارك لآليّة تنفيذ ومراقبة وقف الأعمال العدائية، أشبه بمفوّض سامٍ أمنيّ؟
علاقة “الحزب” – الجيش
وسط هذه الضبابية، التي يستحيل بسببها تحديد إحداثيات اليوم التالي، على المدى البعيد، وليس القريب، تبقى علاقة “الحزب” بالمؤسّسة العسكرية، أي الجيش، هي الأكثر رصداً ومتابعة، بفعل الانتشار المكثّف الذي سينفّذه الجيش جنوب الليطاني، الذي سيصير بحكم الأمر الواقع بقعة تماسّ بين الجانبين. وهو ما يجعل المرحلة المقبلة الأكثر حساسية ودقّة بين الجانبين، ويستدعي الوقوف عند الملاحظات التالية:
– حرص الأمين العام لـ”الحزب” الشيخ نعيم قاسم خلال خطابه الأخير على الإشادة بـ”التنسيق بين المقاومة والجيش اللبناني الذي سيكون تنسيقاً عالي المستوى لتنفيذ التزامات الاتفاق. لا يُراهننّ أحد على مشاكل أو خلاف. نظرتنا للجيش اللبناني بأنّه جيش وطني، قيادةً وضبّاطاً وأفراداً”، وذلك بعد الإشكال الذي شهده مجلس الوزراء في جلسته الأخيرة على خلفيّة رفض قائد الجيش العماد جوزف عون الإفصاح عن تفاصيل خطّة انتشار الجيش في الجنوب.
يتقاطع هذا المنحى التفاهميّ مع ما عبّر عنه وزير العمل إبراهيم بيرم على طاولة مجلس الوزراء في مداخلته التي وصفها زملاؤه بالهادئة والموزونة، حين توجّه بكلامه إلى قائد الجيش سائلاً عن تفاصيل الخطّة “ليس من باب التشكُّك في سلوك المؤسّسة العسكرية، وإنّما من باب تجنّب أيّ اصطدام مع “الحزب”.
– هذا ما يقود إلى الاستنتاج أنّ “الحزب” يتهيّب المرحلة المقبلة الملتبسة بإجراءاتها، مع العلم أنّ بعض الوزراء حاولوا الاستفهام من العماد عون عن طبيعة الإجراءات التي سيتّخذها الجيش جنوب الليطاني إنفاذاً للترتيبات الأمنيّة، فأشار أمامهم إلى أنّ الجيش خلال وجوده السابق في الجنوب واجه حالات مماثلة لتلك التي سيواجهها في المستقبل، عند إبلاغه بوجود مخزن أسلحة لـ”الحزب”، وقد تمّت معالجة تلك الحالات بهدوء ورويّة وبتنسيق مع “الحزب”. وهو ما يعني أنّه حاول طمأنة الوزراء إلى لجوئه إلى الأسلوب الناعم لا الصداميّ.
– أكثر من ذلك، تقول المعلومات إنّ جلسة مجلس الوزراء كانت محصّنة باتفاق مسبق أمّنه الموفد الأميركي آموس هوكستين، عبر رئيس مجلس النواب نبيه بري، يقضي بعدم تسجيل أيّ من الوزراء، وتحديداً وزراء “الثنائي”، أيّ تحفّظ على بنود الاتفاق من باب المزايدات أو الاستعراض الإعلامي. ولهذا لم تخرج الجلسة عن السياق المتوقّع لها.
– تبيّن الخريطة المرفقة بالترتيبات الأمنيّة للاتفاق وجود تعديل على الخطّ المفترض أنّه مجرى الليطاني، حيث تمّ ضمّ بقعة جغرفية (عند بلدة يحمر) من شمال الليطاني إلى المساحة المحكومة بالترتيبات الأمنيّة الدولية. وهو ما أثار علامات استفهام عن أسباب هذا الضمّ وخلفيّاته.
– يسود الاعتقاد أنّ انتشار الجيش الموسّع والمكثّف جنوب الليطاني سيخلق نوعاً من Buffer Zone تكون بمنزلة حدّ فاصل بين إسرائيل و”الحزب” الذي سيتراجع إلى شمال الليطاني وما بعده، لتعطيل صواريخ “الكورنيت” التي تواجه إسرائيل صعوبة في صدّها خاصة بعد تدميرها. وهو ما كان يُرمى إليه في أعقاب 2006 ولم يتحقّق.
كلير شكر