بقلم تشارلز ليستر
مدير برامج سوريا ومكافحة الإرهاب والتطرف في معهد الشرق الأوسط في واشنطن
شهد الشرق الأوسط عامًا مضطربًا بشكلٍ غير عادي، حيث استمرّت تموّجات هجوم “حماس” على إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 في تأجيج الأعمال العدائية في فلسطين ولبنان وسوريا والعراق واليمن ومياه الخليج. وقد أدّى التكثيف الأخير للصراع في لبنان في أعقابِ هجمات إسرائيل المدمّرة على “حزب الله” بأجهزة النداء واللاسلكي إلى إشعال دورة من التصعيد المتبادل بين إسرائيل وإيران، مما وضع المنطقة على حافةِ سكينٍ جماعية. وفي الوقت نفسه، خرج الحوثيون في اليمن من الاضطرابات كفاعلٍ ذي أهمية إقليمية كبيرة، بعد أن نجوا من كلِّ ما أُلقي في طريقهم من حملة الضربات العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة وفرق العمل البحرية المتعددة التي تسعى (وتفشل) في ردع هجماتهم، والتي استهدفت أكثر من 90 سفينة حتى الآن، بما في ذلك سفن حربية أميركية.
في خضمِّ كلِّ هذا، لم تحظَ سوريا إلّا بقدرٍ ضئيلٍ من الاهتمام، على الرُغم من دورها المركزي في أجندة إيران الإقليمية باعتبارها حليفتها الرئيسة في العالم العربي. فعلى مدى عقود، كانت حملة إيران الثورية لطرد الولايات المتحدة وإسرائيل من الشرق الأوسط تمرُّ عبر دمشق. ومع ذلك، وعلى الرُغم من كونها في قلبِ ما يُسمّى “محور المقاومة”، فقد سعى بشار الأسد بوضوح إلى إبقاءِ الدولة السورية بعيدةً من الدوامة. ولم يكن هذا عملًا خيريًا، كما قد يقترح البعض، بل كانَ عملًا من أعمال الحفاظ على الذات. فبعدَ أكثر من 13 عامًا من الصراع الأهلي، أصبح نظام الأسد أضعف وأكثر عُرضةً للخطر من أيِّ وقتٍ مضى ــ مع اقتصادٍ مُحَطَّم، وبُنيةٍ تحتية مُدمَّرة، وأمّةٍ مُنقسمة، وجهازٍ أمني تحكمه الجريمة المُنظَّمة، ولا ضوءَ في نهايةِ النفق.
لقد أدّت هذه الحقائق، إلى جانبِ الخسائر الفادحة التي فُرِضَت على أمثال “حزب الله”، إلى توليدِ التفاؤل في بعضِ دوائر صُنعِ السياسات بأنَّ الإنجازات العسكرية الإسرائيلية “تُحدّدُ التاريخ”، وتخلقُ فُرَصًا لتحويل وتشكيل المنطقة بشكلٍ إيجابي وعَكسِ نفوذِ إيران التوسُّعي. داخليًا، تُقدّرُ وزارة الدفاع الأميركية أنَّ “حماس” و”حزب الله” عانا من أضرارٍ وجودية قد لا يتعافا منها أبدًا. والآن يقول بعض التقارير إن إدارة بايدن “متفائلة” بأنَّ الأسد سيمنع قريبًا بشكلٍ دائمٍ قدرة إيران على دعم “حزب الله” في لبنان، وهي في وَضعٍ يسمح لها بمكافأة دمشق على القيام بذلك. في أفضل الأحوال، يجب وصف مثل هذه الحسابات بأنها متفائلة؛ وفي أسوَإِ الأحوال، خيالية.
الأسد – سقط ولكنه ما زال موجودًا
في الوقت نفسه، يدعمُ الحرس الجمهوري ومديرية المخابرات العسكرية في سوريا، لأوّل مرة على الإطلاق، بشكلٍ مباشر حملةً هجومية مُستمرّة بالوكالة من إيران تستهدف القوات الأميركية على الأراضي السورية، وتُرَكّزُ حول قاعدة “أم أس أس كونوكو” في دير الزور – وهي ليست علامة مشجعة، ولا مؤشرًا إلى موقف سوريا الإيجابي الذي يتمتّع بحُسنِ النيّة.
من منظورٍ أميركي، حققت الولايات المتحدة العديد من الانتصارات التكتيكية ضد خصومٍ غير مُتكافئين من قبل، ولكن بدون حلٍّ للأسباب الجذرية والدوافع الفريدة لفلسطين ولبنان وسوريا والعراق واليمن، فإنَّ حملةَ الاستنزاف التي تشنُّها إيران ووكلاؤها على مدى أجيال سوف تستمر. إنَّ الدمارَ الذي لحق بغزة والافتقار إلى بديل شامل ودائم للبنان يتصدّى بشكلٍ حاسم للنفوذ الاجتماعي والسياسي الكبير ل”حزب الله” من شأنه أن يتركَ وراءه الظروف التي من المؤكد تقريبًا أن تزدهر فيها هذه المجموعة الشيعية مرةً أخرى. لا تتمتع الولايات المتحدة ولا إسرائيل بسجلٍّ مُشجِّعٍ عندما يتعلّقُ الأمرُ بتطوير ودعم النوع من الحلول الاستراتيجية طويلة الأجل اللازمة لتأكيد الإنجازات التكتيكية التي تحقّقت في ساحة المعركة.
لا يُوجَدُ مكانٌ آخر يتجلّى فيه هذا الفراغ في التفكير الاستراتيجي أكثر وضوحًا من سوريا، التي ستدخل قريبًا عامها الرابع عشر من الأزمة المُنهِكة. غالبًا ما تُوصَفُ سوريا بأنها “صراعٌ متجمِّد”، وفي حين أنَّ خطوطَ السيطرة الإقليمية قد تكون ثابتة بالفعل، فإنَّ الصراعاتَ المُتعدّدة في جميع أنحاء البلاد ليست مُجَمَّدة على الإطلاق. لقد شهدت الأشهر الماضية تصعيدًا في الأعمالِ العدائية على كلِّ الجبهات، بما في ذلك الجهات الفاعلة السورية المحلّية وكذلك الجهات المعنية الخارجية – روسيا وتركيا والولايات المتحدة والأردن وإسرائيل. ومع تصاعُدِ الأعمال العدائية، تستمرُّ الأزمة الإنسانية في سوريا في التفاقُم، حيث أصبحت الاحتياجات الآن أكبر من أيِّ وقتٍ مضى والتبرُّعات لجهودِ المساعدات التي تقودها الأمم المتحدة في أدنى مستوياتها على الإطلاق، حيث تمَّ تمويل حوالي 27٪ منها فقط.
تحتَ السطح، تمَّ استيعابُ اقتصادُ الحرب المُزدَهر في سوريا بالكامل من قبل الجريمة المنظَّمة، التي تُغذّيها مؤسّسة الاتجار بالمخدرات على نطاقٍ صناعي من قبل النظام. وفي حين تتدفَّق ما لا يقل عن 10 مليارات دولار من الكبتاغون والكريستال ميثامفيتامين المصنوعَين في سوريا إلى الخارج كل عام، فقد ترسّخَ وباءُ المخدّرات المحلّي، ما أدّى إلى تفاقُمِ البطالة والجريمة والعنف بشكلٍ كبير. إنَّ القلبَ النابض لهذه المغامرة التي تقوم على دولة المخدرات هم الفرقة الرابعة النخبوية في سوريا وشريكاها الاستراتيجيان، الحرس الثوري الإسلامي الإيراني و”حزب الله”. ومع كون المخدّرات، وخصوصًا الكبتاغون، تُشكّلُ الغراءَ الذي يربُطُ النظامَ وشركاءه العديدين ببعضهم البعض، فلا توجدُ احتمالاتٌ واقعية لكسر هذه الدائرة السيئة، وطالما ظل هذا هو الحال، فإنَّ الروابط التي تربط سوريا بإيران و”حزب الله” سوف تبقى.
سوريا ما زالت ملاذًا ل”حزب الله”
في حين تستمرُّ الأعمالُ العدائية في لبنان، فإنَّ وجودَ “حزب الله” في سوريا لم يَتَغَيَّر إلى حدٍّ كبير. فبالإضافة إلى الانتشارِ الدائم في 12 قاعدة عسكرية سورية على الأقل في درعا والسويداء ودمشق وريف دمشق وحمص وحماة واللاذقية وطرطوس ودير الزور، يحتفظ “حزب الله” بمعاقل حول الزبداني وجبال القلمون والقصير والسيدة زينب ومدينة حلب ونبل والزهراء. وإلى جانب الحرس الثوري الإيراني، يحتفظ “حزب الله” بملحقٍ مُتَخصّصٍ دائمٍ داخل جبهة البحث والتطوير العسكري لنظام الأسد، وهو مركز الدراسات والبحوث العلمية السوري – وخصوصًا المعهد 1000 والفرع 410 (كلاهما في جمرايا)، والمعهد 4000 (في مصياف). كما يحتفظ “حزب الله” بوجود عسكري واستخباراتي سري في غرب درعا والقنيطرة، على طول جبهة الجولان. إنَّ الأسابيع التي تلت الغارات الجوية الإسرائيلية المُكثّفة على المعابر الرسمية وغير الرسمية بين لبنان وغرب سوريا تهدف إلى وقف تدفُّق الأسلحة إلى لبنان، ولكنها ليست حلًّا مُستدامًا أو دائمًا. فقد تمَّ قصفُ أهدافٍ عدة مرات متتالية، بعد أن أدّت الإصلاحات إلى إعادة فتحها.
على هذا، فبينما فرضت إسرائيل بلا شك تكاليف تكتيكية كبيرة على “حزب الله” في الأشهر الأخيرة، فإنَّ احتمالَ إبعاده عن الساحة اللبنانية يبدو غير واقعي. ففي سوريا المجاورة، تمتدُّ جذورُ “حزب الله” عميقًا، وأيًا كان الموقف الذي يظهره نظام الأسد اليوم من صمت تجاه إيران، فهو سطحي ومؤقت. إنَّ استعصاء الأزمة السورية المستمرّة منذ فترة طويلة والغياب التام لأيِّ جهدٍ ذي مغزى لحلِّ الأسباب الجذرية والدوافع الكامنة ورائها يعني أنَّ الظروفَ المؤاتية لوجود “حزب الله” ونفوذه الاستراتيجي في المدى الطويل سوف تظل قائمة. وبعيدًا من الحسابات التي تُجرى استجابةً للأزمة الإقليمية التي اندلعت بعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، يبدو أنَّ قطاعاتٍ كبيرة من المجتمع الدولي مُلتَزمة بنهجِ الوضع الراهن في التعامل مع الأزمة السورية. ومن ناحية أخرى، ربما تُفكّرُ إسرائيل في تصعيدٍ كبيرٍ في سوريا، بعد أن شنّت موجةً مُكثَّفة من الغارات الجوية بلغ عددها 16 غارة على الأقل في غضون 48 ساعة. وتشيرُ كل المقاييس إلى أنَّ الوضع الراهن غير قابل للاستمرار ببساطة، مع تآكل الصراع “المُجَمَّد” نفسه. وهذا من شأنه أن يجعلَ سوريا ملعبًا أكثر خصوبة ل”حزب الله” في المستقبل.
تشارلز ليستر