إيمان شمص
«أساس ميديا»
“إسرائيل في ورطة خطيرة. مواطنوها منقسمون بشدّة، وهي غارقة في حرب لا يمكن الفوز بها في غزة. جيشها منهك وكذلك اقتصادها ولا تزال الحرب الأوسع مع الحزب أو إيران احتمالاً قائماً، وقد ألحق سلوكها الأخير ضرراً خطيراً بصورتها العالمية، وأصبحت دولة منبوذة بطرق لم يكن من الممكن تصوّرها في السابق”.
“الانحدار الخطير” في وضع إسرائيل من المرجّح أن لا يتحسّن، بحسب ستيفن م. والت، الكاتب في مجلة “فورين بوليسي” وأستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفرد، وهو في رأيه نتيجة مشكلة أعمق: هي التآكل التدريجي للتفكير الاستراتيجي لإسرائيل على مدى السنوات الخمسين الماضية، بسبب خمسة خيارات خاطئة:
– الخطأ الأوّل: الشعور بالغطرسة بعد عام 1967 إثر سرعة وحجم انتصارها المذهل في الحرب العربية الإسرائيلية عام 1967، وهو شعور قوّض حكمها الاستراتيجي منذ ذلك الحين. كان الخطأ الرئيسي هو قرار الاحتفاظ بالضفة الغربية وغزة واحتلالهما واستعمارهما تدريجياً، كجزء من جهد طويل الأمد لإنشاء “إسرائيل الكبرى”. فبينما سعى بن غوريون وأنصاره إلى تقليل عدد الفلسطينيين داخل الدولة اليهودية الجديدة، فإنّ الاحتفاظ بالضفة الغربية وغزة يعني أنّ إسرائيل تسيطر الآن على عدد سكان فلسطينيين متزايد بسرعة يقارب عدد سكان اليهود الإسرائيليين. وخلق هذا الاحتلال توتّراً لا مفرّ منه بين الطابع اليهودي لإسرائيل ونظامها الديمقراطي: إذ لا يمكن لإسرائيل أن تظلّ دولة يهودية إلا من خلال قمع الحقوق السياسية للفلسطينيين وإنشاء نظام فصل عنصري، في عصر كان فيه مثل هذا النظام السياسي لعنة في العالم، ويمكن أن تتعامل إسرائيل مع هذه المشكلة بمزيد من التطهير العرقي و/أو الإبادة الجماعية، لكنّ كليهما جرائم ضدّ الإنسانية لا يمكن لأيّ صديق حقيقي لإسرائيل أن يؤيّدها.
– الخطأ الثاني: إغفال القادة الإسرائيليين ونظرائهم الأميركيين للدلائل على استعداد الرئيس المصري أنور السادات لإحلال السلام في مقابل إعادة شبه جزيرة سيناء التي احتلّتها إسرائيل في عام 1967. إذ افترضت الاستخبارات الإسرائيلية خطأً أنّ الجيش المصري أضعف من أن يتحدّى قوات الدفاع الإسرائيلية في سيناء، وهو ما منعه من دخول الحرب. وكانت النتيجة حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973. وعلى الرغم من النكسات الأوّلية، انتصرت إسرائيل في ساحة المعركة، لكن ليس على طاولة المفاوضات بعد الحرب. أقنعت تكاليف الحرب، إلى جانب الضغوط الأميركية، القادة الإسرائيليين بالبدء بمفاوضات جادّة للتخلّي عن سيناء. وأدّى هذا التحوّل إلى زيارة السادات التاريخية للقدس، واتفاقية كامب ديفيد، ومعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية اللاحقة. لكنّ رئيس الوزراء آنذاك، مناحيم بيغن، الملتزم بشدّة بهدف إسرائيل الكبرى وغير الراغب في إنهاء الاحتلال، أهدر هذه الفرصة الواعدة لتسوية القضية الفلسطينية بشكل نهائي.
– الخطأ الثالث: كانت العلامة الواضحة التالية على تآكل الحكم الاستراتيجي هي الغزو الإسرائيلي المشؤوم للبنان في عام 1982، وهو فكرة وزير الدفاع المتشدّد أرييل شارون، الذي أقنع بيغين بأنّ الغزو العسكري هناك من شأنه أن يبدّد منظمة التحرير الفلسطينية ويؤسّس لحكومة موالية لإسرائيل في بيروت، ويمنح إسرائيل حرّية التصرّف في الضفة الغربية. كان الغزو نجاحاً عسكرياً قصير الأمد، لكنّه أدّى إلى احتلال جيش الدفاع الإسرائيلي لجنوب لبنان، الأمر الذي أدّى بدوره إلى إنشاء الحزب، الذي أجبرت مقاومته المتزايدة القوّة إسرائيل على الانسحاب من لبنان في عام 2000. في حين انسحاب منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان لم يضع حدّاً للمقاومة الفلسطينية، بل على العكس من ذلك مهّد الطريق للانتفاضة الأولى في عام 1987، وهي علامة واضحة أخرى على أنّ الفلسطينيين لن يغادروا وطنهم أو يخضعوا للقهر الإسرائيلي الدائم.
– الخطأ الرابع: على الرغم من إدراك الإسرائيليين البعيدي النظر أنّ القضية الفلسطينية لن تختفي، استمرّت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في التصرّف بطرق تؤدّي إلى تفاقم المشكلة. على سبيل المثال، على الرغم من قبول منظمة التحرير الفلسطينية بوجود إسرائيل بالتوقيع على اتفاقية أوسلو الأولى في عام 1993، لم يرغب أيّ زعيم إسرائيلي في تقديم دولة خاصة بالفلسطينيين. كان أفضل عرض إسرائيلي هو إنشاء كانتونَين أو ثلاثة كانتونات منفصلة ومنزوعة السلاح في الضفة الغربية، مع احتفاظ إسرائيل بالسيطرة الكاملة على حدود الكيان الجديد ومجاله الجوّي وموارده المائية. لم تكن هذه دولة قابلة للحياة، ناهيك عن دولة يمكن لأيّ زعيم فلسطيني شرعي أن يقبلها.
لإحلال السلام مع الفلسطينيين، يجب على إسرائيل التوقّف عن توسيع المستوطنات في الأراضي المحتلّة والعمل معهم لإقامة حكومة ذات كفاية وفعّالة وشرعيّة. ولكنّ زعماء إسرائيل، وخاصة الحكومات التي يقودها شارون ونتنياهو، فعلوا العكس. رفضوا وقف التوسّع الاستيطاني، وعملوا جاهدين لإبقاء الفلسطينيين ضعفاء ومنقسمين حتى عندما كان هذا يعني دعم حماس ضمناً، وعرقلوا مراراً الجهود الأميركية لتحقيق حلّ الدولتين. وكانت النتيجة سلسلة متكرّرة من المواجهات المدمّرة لكن غير الحاسمة. هذه الجهود المتكرّرة “لجزّ العشب” لم تضع حدّاً للمقاومة الفلسطينية، بل بلغت ذروتها في نهاية المطاف في هجوم حماس في 7 أكتوبر (تشرين الأول)، وهو أقسى ضربة تتلقّاها إسرائيل منذ عقود.
– الخطأ الخامس: معارضة إسرائيل الشديدة للجهود الدولية للتفاوض على قيود على البرنامج النووي الإيراني. كان ينبغي لنتنياهو وغيره من القادة الإسرائيليين أن يشعروا بالرضا والارتياح عندما أقنعت الولايات المتحدة والقوى العالمية الكبرى الأخرى إيران بالتوقيع على خطّة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015 لأنّها تتطلّب من طهران خفض قدرتها على التخصيب، وتقليص مخزونها من اليورانيوم المخصّب، وقبول عمليات التفتيش الشديدة التدخّل من الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وبالتالي وضع القنبلة الإيرانية بعيداً عن متناول اليد لمدّة عقد وربّما لفترة أطول. أيّد العديد من كبار المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين الاتفاق، لكنّ نتنياهو وأنصاره المتشدّدين، إلى جانب الجماعات المتشدّدة في اللوبي الإسرائيلي الأميركي، عارضوها بشدّة، وأقنعوا الرئيس آنذاك دونالد ترامب بالانسحاب من الصفقة في عام 2018، واليوم أصبحت إيران أقرب من أيّ وقت مضى إلى إنجاز صناعة قنبلة.
تدهور البصيرة الإسرائيليّة
يعيد الباحث والت التدهور الدراماتيكي للبصيرة الاستراتيجية الإسرائيلية إلى عوامل مهمّة، منها الشعور بالغطرسة والإفلات من العقاب الذي ينبع من حماية الولايات المتحدة واحترامها لرغبات إسرائيل، إضافة إلى ميل إسرائيل إلى النظر إلى نفسها باعتبارها ضحيّة فقط، واتّهام كلّ معارضة لسياساتها بمعاداة السامية لا يساعد كثيراً لأنّه يجعل من الصعب على القادة الإسرائيليين وجماهيرهم إدراك كيف قد تؤدّي أفعالهم إلى إثارة العداء الذي يواجهونه. كما يشكّل حكم نتنياهو الأطول بين عهود نظرائه في إسرائيل جزءاً آخر من المشكلة، وخاصة أنّ أفعاله مدفوعة إلى حدّ كبير بالمصلحة الذاتية وليس بالمخاوف بشأن ما هو الأفضل لبلاده فقط. وإذا أضفنا إلى ذلك النفوذ المتزايد لليمين الديني، فعندما تبدأ أيّ دولة باتّخاذ قرارات استراتيجية تستند إلى نبوءات نهاية العالم وتوقّع التدخّل الإلهي، يجب على المرء أن يكون حذراً.
يحذّر الباحث من أنّ تصرّفات إسرائيل تهدّد آفاقها في الأمد البعيد، فلقد ألحق سلوكها الانتقامي القصير النظر ضرراً هائلاً بالفلسطينيين الأبرياء لعقود من الزمان، ولا يزال حتى اليوم، ومن غير المرجّح أن يضع حدّاً للمقاومة الفلسطينية. كما أنّ الارتباط الوثيق بشريك غير مدروس يشكّل أيضاً مشكلة خطيرة بالنسبة للولايات المتحدة لأنّه يستهلك منها الوقت والاهتمام والموارد ويجعلها تبدو غير فعّالة ومنافقة. وقد يؤدّي هذا إلى إلهام موجة أخرى من الإرهاب المناهض لأميركا، مع كلّ الضرر الواضح الذي قد يترتّب عليه.
ويقترح والت أنّ “أفضل شيء يمكن أن يفعله أنصار إسرائيل في الولايات المتحدة هو الضغط على الديمقراطيين والجمهوريين لاستخدام جرعة قوية من الحبّ القاسي للدولة اليهودية حتى تبدأ بإعادة النظر في مسارها الحالي. بالطبع، سيتطلّب هذا من مجموعات الضغط مثل “أيباك” التفكير في دورها في قيادة إسرائيل إلى مأزقها الحالي. ومن المؤسف أنّه لا توجد علامة على حدوث ذلك في أيّ وقت قريب. وبدلاً من ذلك، تضاعف إسرائيل وأنصارها في الولايات المتحدة جهودهم. وهذه وصفة لمشاكل لا نهاية لها، إن لم تكن كارثة.
إيمان شمص