عودة العدوان على غزة… عودة للغدر والخيانة

0

المحامي  أسامة العرب

تشهد غزة اليوم موجة عدوان جديدة من قِبَل الاحتلال الإسرائيلي، تكرر سيناريوهات القمع والدمار التي لم تتوقف منذ عقود، لكنها هذه المرة تأتي في سياقٍ سياسي ودولي معقد، يُظهر تواطؤاً دولياً واستغلالاً صهيونياً للأزمات الإقليمية لتحقيق أهداف توسعية، تحت غطاء “الحق في الدفاع عن النفس”.

الأسباب السياسية الداخلية: أزمات نتنياهو وحكومة اليمين المتطرف

لا يمكن فصل العدوان الحالي عن الأزمة العميقة التي تعصف بحكومة بنيامين نتنياهو، والتي تواجه خطر الانهيار بسبب الخلافات حول قانون الموازنة المقرر في تموز. ففي محاولة يائسة لكسب دعم وزراء اليمين المتطرف – مثل إيتمار بن غفير وبيتسليئيل سموتريتش – الذين يهددون بإسقاط الحكومة حال عدم زيادة الإنفاق على المستوطنات وتعزيز القمع ضد الفلسطينيين، لذا يلجأ نتنياهو إلى تصعيد عسكري لتحويل الرأي العام الإسرائيلي من الفشل الأمني في 7 أكتوبر/تشرين الأول والاحتجاجات المطالبة باستقالته، إلى “حالة طوارئ وطنية” تُبرر بقاءه في السلطة. 

فبينما حماس توافق على صفقة تبادل تشمل وقفاً مؤقتاً للعدوان، يرفض الاحتلال الالتزام بالمرحلة الثانية من الاتفاق التي تتضمن انسحاباً كاملاً من غزة وإطلاق سراح مئات المعتقلين الفلسطينيين، مفضلاً خيار الحرب لاستعادة الأسرى دون تنازلات سياسية، وهو ما يكشف استهانةً بحياتهم لصالح مصالح حكومة اليمين الإسرائيلية.

السياق الجيوسياسي: تمهيد الطريق لـ”الشرق الأوسط الجديد”

يتزامن العدوان مع تحضيرات لزيارة مُزمعة للرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى المنطقة، والتي يُعتقد أنها تهدف إلى تكريس التقسيم الجغرافي والديموغرافي لفلسطين عبر تصفية القضية فلسطينياً ودولياً. فاستهداف غزة ديموغرافياً – عبر تهجير النازحين في رفح وخان يونس وتدمير البنية التحتية – يُذكّر بمشاريع التهجير القسري التي طُبقت في فلسطين التاريخية عام 1948، وبسياسات التهويد المستمرة في الضفة والقدس. 

هذا بالإضافة إلى أن الظروف الإقليمية الحالية، مثل التصعيد في لبنان، تخلق بيئةً تسمح لإسرائيل بتوسيع عدوانها دون ردع فاعل، خاصةً مع استمرار الدعم الأميركي المُطلق، والذي تجلّى مؤخراً بالاعتراض الأميركي على اعتراف دول أوروبية بدولة فلسطين، وعلى إمداد إسرائيل بأسلحة غير نوعية خلال تنفيذها المجازر العديدة، وأبرزها مجزرة رفح.

حرب الإبادة: أرقامٌ تفضح الوحشية

بحسب بيانات وزارة الصحة الفلسطينية، تجاوز عدد الشهداء ليل الثلاثاء ال 360 مدنياً، معظمهم من الأطفال والنساء، منذ استئناف العدوان، فيما تُظهر صور الأقمار الصناعية تدميراً ممنهجاً سابقاً لأحياء كاملة، مثل حي “التفاح” و”الشجاعية”، حيث تحولت المنازل إلى ركام. كما أن قصف خيام النازحين اليوم في “مواصي” غرب خان يونس، ومدرسة “الدرج” التي تؤوي مئات العائلات، يؤكد نهجاً إسرائيلياً يعتمد على تجويع المدنيين وتدمير ملاذاتهم الآمنة الوحيدة، في انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني الذي يُجرّم استهداف المنشآت المدنية. 

وفي تصعيدٍ يعكس استهزاءً بالضمير العالمي، فرض الاحتلال حصاراً كاملاً على دخول الغذاء والدواء إلى القطاع مع بداية رمضان، متسبباً في مجاعة تُهدد حياة مليوني فلسطيني، بينما تصمت المحاكم الدولية – ومنها محكمة العدل الدولية التي كانت قد أمرت إسرائيل بوقف أعمال الإبادة – في سابقةٍ خطيرة تُسقط هيبة القانون الدولي.

مقاومةٌ لا تنكسر: لماذا يفشل العدوان؟  

رغم الضغط العسكري غير المسبوق، ترفض حماس تقديم تنازلات، مؤكدةً أن الأسرى لن يعودوا إلا بثمن سياسي يضمن إنهاء الحصار. وهذا الموقف يستند إلى دروس التصدي لعدوانات سابقة (مثل 2008 و2014 و2021)، حيث فشلت إسرائيل في كسر الإرادة الشعبية، بل زادت المقاومة قوةً بتنويع أدواتها. فالقصف العشوائي اليوم – وإن خلّف دماراً هائلاً – يغذي الرواية الفلسطينية المُتجددة عن شرعية النضال، ويُعرّي زيف “الجيش الأخلاقي” الإسرائيلي أمام العالم.

الاحتلال وإدارة الأزمات: لعبة التدمير وإعادة الإعمار

لا يكتفي الاحتلال بتدمير غزة، بل يحوّل كل عدوان إلى فرصة لفرض معادلة جديدة تخدم مشروعه الاستيطاني. فمنذ عام 2008، دمّرت إسرائيل القطاع ثلاث مرات تحت ذرائع “الدفاع عن النفس”، وفي كل مرة يُجبر الفلسطينيون على العيش تحت رحمة مساعداتٍ إنسانية لا تُغطي حتى 10% من الاحتياجات الأساسية. هذه الدورة المُتعمَّدة من التدمير وإعادة الإعمار المشروطة تُكرّس تبعية غزة، وتُحوّل قضيتها من سياسية إلى “إغاثية”، وهو ما تسعى إليه الدبلوماسية الغربية التي تتباكى شكلياً على “المعاناة الإنسانية” لأهالي المدينة.

الإعلام الغربي: تواطؤ الصمت وتزييف الحقائق

في الوقت الذي تُظهر فيه مقاطع الفيديو المُسرّبة من غزة مشاهدَ مروّعة لطفلة تُدفن تحت أنقاض منزلها أو طبيب يُحاول إنقاذ جرحى بلا أدوية، تتحول شاشات الإعلام الغربي إلى منصاتٍ لتبرير العدوان. فالعبارات المُستَخدمة – مثل “رد فعل متناسب” أو “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها” – تُقدّم الصهاينة كضحايا، بينما يُختزل الفلسطينيون إلى “أرقام” أو “درع بشري”. حتى التقارير التي تنتقد “التصعيد من الجانبين” تُساوي بين الجلاد والضحية، متناسيةً أن المقاومة حقٌّ شرعيٌ يكفله القانون الدولي، بينما الاحتلال جريمةٌ تَنتهك كل المواثيق. 

أما الأخطر من ذلك فهو حجب السياق التاريخي: فلم تُذكر في التقارير الدولية أن 75% من سكان غزة هم لاجئون هُجّروا من أراضيهم عام 1948، أو أن الحصار المفروض منذ 17 عاماً حوّل القطاع إلى “سجن مفتوح” يحظر على أهله بناء ميناء أو مطار. وهذا التشويه المُمنهج للرواية ليس بريئاً؛ بل إنه جزء من حربٍ تستهدف وعي الشعوب، وتُهيئ الرأي العام لقبول “الحل النهائي” الذي تريده إسرائيل.

المقاومة المؤسساتية: التعليم والصمود كأدوات تحرير

 وسط الدمار، تُشكّل المؤسسات الفلسطينية في غزة نموذجاً فريداً للصمود. فبرغم قصف المدارس والجامعات، تستمر العملية التعليمية في الخيام أو بين الأنقاض، كرسالةٍ بأن المعرفة سلاحٌ لا يُقهَر. وتُحاول إسرائيل تدمير هذا الرمز عبر استهداف واضح للمعلمين والأكاديميين الغزاويين. 

كما تُحافظ المؤسسات الصحية – رغم شحّ الإمكانيات – على معدلاتٍ مذهلة في التعامل مع الجرحى، حيث طوّر الأطباء أساليبَ جراحية مبتكرة بسبب نقص المعدات، مثل استخدام الخلطات الطبيعية لتطهير الجروح عند انعدام المضادات الحيوية. وهذه الإبداعات ليست مجرد ردّ فعل على الحصار، بل تأكيدٌ على أن غزة، برغم كل شيء، لن تستسلم.

الشباب الفلسطيني: جيلٌ يرفض أن يكون ضحية

  قد تكون المفارقة الأكثر قسوة في هذا العدوان أن غالبية ضحاياه من مواليد عام 2000 فما بعد، أي أنهم وُلدوا تحت الحصار وعاشوا كل عدوانٍ منذ 2008. لكن هذا الجيل، بدلاً من أن ينهار تحت وطأة الصدمات المتكررة، يتحول إلى قوة دفعٍ للثورة. فمنصات التواصل الاجتماعي تعجّ بمبادرات شبابية توّثق الانتهاكات بلغات متعددة، وتكشف زيف الرواية الإسرائيلية، بل وتنظم حملات مقاطعة عالمية (BDS) بأساليبَ احترافية. 

الاحتلال لا يستطيع القضاء على نهج المقاومة

 لو افترضنا – جدلاً – أن إسرائيل نجحت في “القضاء على حماس”، فماذا بعد؟ هل سينجح الاحتلال في إخضاع مليوني فلسطيني في غزة بالقوة؟ التاريخ يُجيب: كلما زاد القمع، زادت المقاومة تنوعاً وعنفواناً. فالشعب الذي فقد أطفاله وبيوته لا يملك ما يخسره، وسيُعيد إنتاج أدوات نضاله بطرقٍ لا تُتوقع. حتى لو سقطت حماس لاسمح الله، فستنهض حركاتٌ جديدة أكثر تشدّداً، لأن الظلم نفسه يُنتج رافضيه. 

غزة تُعيد تعريف الانتصار.

ختاماً، ليست المعركة في غزة اليوم حول عدد الشهداء أو حجم الدمار، بل حول شرعية التاريخ نفسه. فكل طفلٍ يُقتل هناك هو إدانةٌ لعالمٍ سمح للاستعمار أن يلبس ثوب “الدولة”، وكل صورةٍ لمسنٍّ يحمل حفيدته من تحت الأنقاض تُذكرنا أن الإنسان أقوى من كل آلات الموت. 

غزّة تعلّم العالم معنى الانتصار:

 ليس بالسيطرة على الأرض، بل بالصمود في وجه محو الهوية ننتصر. وليس بعدد الصواريخ، بل بقدرة شعبٍ على تحويل المأساة إلى ملحمة ننتصر أيضاً. وكما كتب محمود درويش:  “على هذه الأرض ما يستحق الحياة… وَقْتُنا المُشرَّفُ بالدم، أرضُنا المُشرَّفةُ بالقيحِ الأزرقْ”.

المحامي  أسامة العرب

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.