حديث رمضان رمضان.. معنى الانتصار على الذات

9

الوزير محمد نزار شقير

رئيس تجمّع “كلنا بيروت”

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا ونبينا محمد إمام المتقين وعلى آله وصحبه أجمعين.

يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون﴾. ويقول سبحانه وتعالى (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ).

بدايةً نغتنم حلول شهر الخير والبركة والغفران، لنهنّئ اللبنانيين عامة والمسلمين خاصة بقدوم هذا الشهر الفضيل، ونسأل الله أن يعمّ فضلُه وبركتُه على بلدنا الحبيب لبنان وعلى الأمتين العربية والإسلامية، وأن تنعم بلادنا بالأمن والأمان والاستقرار والطمأنينة والازدهار والرخاء.

إن المعنى الأسمى للركن الثالث من أركان الإسلام، أي صوم شهر رمضان، لا يتوقّف فقط عند الإمساك عن الطعام والشراب ولا في يكتفي بالإكثار من الصلاة والنوافل وقيام الليل والأذكار، بل هو الفرصة السنوية التي أنعم الله بها على عباده المؤمنين لترتقي بهم إلى أعلى مراتب الايمان وسموّ الروح والترفّع عن الصغائر الدنيوية، والانتصار على النفس تنقيتها من أخطائها وأدرانها والتخلّص من أحقادها وأوزارها، حتى لا تدّمر ذاتها ومعها الأسرة والمجتمع والأمة، وهنا تزداد الحاجة إلى معرفة المعنى الحقيقي للصيام.

لعلّ أعظم ما يميّز الإنسان المسلم والمؤمن في هذا الامتحان الكبير، النيّة الصادقة والاعتقاد القاطع بأن كلّ ما يفعله من بلسمة الجراح ومدّ يد العون للمحتاج وإغاثة الملهوف، هو عملٌ خالصٌ لوجه الله تعالى، بعيداً عن الرياء والتفاخر والاعجاب بالذات، فيدرك المؤمن حقيقةً، بأن الله جلّ جلاله، فرض عليه هذه العبادة تكرماً منه وفضلاً، حتى يؤدي حقّ الله في تأدية حقّ الفقير وابن السبيل، وأن يدرك الميسور بأن ما وهبه إياه المولى عزّ وجلّ ليس ملكاً له وحده بل ثمّة نصيب للآخرين فيه، مصداقاً لقوله تعالى (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُوم ٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ).

وكما أن رمضان المبارك هو شهر التقارب وصلة الرحم والتوادد والتعاضد والتناصح ونبذ الأحقاد والخلافات، هو أيضاً شهر التفاني من أجل الخير العام، وكما أنه بابٌ من أبواب الخير الذي يحفّز على الاهتمام بالأسرة الصغيرة ورعايتها وعنايتها، وتتبّع أهل الحاجة ومدّ يد العون لهم والتخفيف من آلامهم، يجب أن يكون الكريم المناسبة الفضلى للعمل العام الذي يخدم المجتمع الإسلامي ويرفع مستوى العمل الوطني ككل، وهذا يدفعنا جميعاً إلى أن ننظر كلبنانيين على أننا أسرةٌ واحدةٌ رغم تنوعنا الديني والثقافي، وهذا ما يحضّنا على التعاضد لأجل بلدنا ومسؤولية بنائه ونهوضه ونقله إلى مرحلة الازدهار ليعود بلد التلاقي والحوار الذين يجمع ولا يفرّق، البلد الذي يتوق أشقاؤه إلى اللقاء في ربوعه.

إن الله تعالى فرض على المسلمين شهر رمضان لصيام يومه وقيام ليله، والإكثار فيه من الأذكار وتلاوة القرآن وعمارة المساجد، لكن المولى عزّ وجلّ أراده ليكون حقل الاختبار الذي يظهر معدن الإنسان المسلم المؤمن، بحسن أخلاقه وكيفية تعامله مع الآخرين ولو من غير دينه وعرقه وبيئته، ولنا الأسوة الحسنة في رسوله صلى الله عليه وسلّم وفي صحابته والتابعين الكرام، بأن نعامل الآخرين بأخلاق رمضان ومعانيه السامية، فالحقّ تبارك وتعالى يقول في كتابه الكريم (يَٰٓا َأيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٍٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْ ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ  إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).

وفي حسن الخلق مع الآخرين يقول رسولنا الأكرم محمد صلّى الله عليه وسلّم (إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلا لأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلا بِالتَّقْوَى، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).

يحلّ الشهر الكريم على لبنان، وسط الخوف والرجاء.

دواعي الخوف أنه يأتي في حربٍ إسرائيلية دمّرت جزءاً عزيزاً من بلدنا، وأسفرت عن قتل آلاف الأبرياء وتجهير وتخريب ودمار، وفي ظلّ عدوانٍ مستمرّ على سيادتنا واحتلال مواقع استراتيجية في الجنوب، وللأسف لا يبدو أن هناك أفقاً لنهاية هذا العدوان ولا يمكن التكهّن بما ستؤول إليه الأمور.

أما الرجاء، فيكمن بالتحوّل السياسي الذي شهده لبنان، بدءاً بانتخاب رئيس للجمهورية بعد أكثر من عامين على الفراغ، وتشكيل حكومة يحظى رئيسها ووزراؤها بكلّ التقدير والاحترام، نأمل أن تكون على قدر آمال الناس في إعادة بناء الدولة والتأسيس لمرحلة جديدة تكون فيها الكلمة العليا للدولة ومؤسساتها الدستورية، ويكبر الرهان على أن يؤسس التحوّل الإيجابي لإزالة آثار التداعيات السلبية للحرب، بحيث ينجح العهد الجديد الذي يقوده الرئيس جوزف عون وحكومة الرئيس نوّاف سلام، بحشد الدعم العربي والدولي لتحرير ما تبقى من أرضنا المحتلّة، وحشد دعم الأشقاء العرب لإعادة إعمار ما هدمته الحرب الإسرائيلية، وأن تضع الركائز الصلبة لبناء الدولة والشروع بورشة الإصلاح ومحاربة الفساد، واحتكار الدولة وحدها قرار الحرب والسلم ووحدها دون سوارها حقّ امتلاك السلاح وحماية السيادة اللبنانية.

في مستهلّ هذه الأيام المباركة، نتضرّع إلى الله عزّل وجلّ، أن تكون بداية شهر رمضان، بداية نهوض لبنان من أزماته ووضعه على طريق الخلاص، وأن تكون خاتمة رمضان خاتمة المآسي التي عاشها الشعب اللبناني على مدى سنوات طويلة من الحروب والأزمات والصراعات.

في هذه الأيام الفضيلة، لا ننسى معاناة أهلنا في فلسطين، ونتضرع إلى الله ببركات شهر الخير والعطاء، أن تنتهي مأسي الشعب الفلسطيني، وأن تنتصر قضيته العادلة في إقامة دولته السيّدة الحرة المستقلّة وعاصمتها القدس الشريف، وأن يطوي الشعب الفلسطيني تاريخاً طويلاً من الآلام والمصائب، وأن ينعم الله على الأمتين العربية والإسلامية وعلى البشرية جمعاء بالأمن والأمان والرخاء.

الوزير محمد نزار شقير

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.