مصيبة أوكرانيا… تجمع إيران وأوروبا؟

6

بقلم حسن فحص

«أساس ميديا»

بعد إصدار الرئيس الأميركي دونالد ترامب المذكّرة التنفيذية التي تفتح الطريق أمام الإدارات المعنيّة في الحكومة الأميركية للعودة إلى سياسة العقوبات الاقتصادية المتشدّدة ضدّ إيران، سارع المرشد الأعلى للنظام الإيراني علي خامنئي إلى سدّ الكوّة التي سبق أن فتحها قبل أيام من هذه المذكّرة، واتّخذ مساراً تصعيديّاً ردّاً على التصعيد الأميركي. ولكن من دون أن يقفل الباب نهائياً أمام إمكان استئناف المسار التفاوضي، ضمن الشروط التي وضعها وتضمن الهيبة لإيران.

أدى موقف المرشد إلى كبح الاندفاعة الرسمية والشعبية التي راهنت على انطلاق المسار التفاوضي مع واشنطن، لكنّه فتح في المقابل الباب على المستوى الداخلي لنقاش صريح في مخاطرعودة الخطاب الأيديولوجي للتحكّم بالقرارات والمواقف السياسية والاستراتيجية، وما يخدم المصالح العليا لإيران على حساب الخطاب العقلاني والواقعي.

الحقيقة التي أفرزتها الوقائع الجديدة في منطقة غرب آسيا، خصوصاً على الساحات الفلسطينية واللبنانية والسورية، وما كشفته من تغييرات أصابت المشروع الإقليمي للنفوذ الإيراني، والتصدّع الذي لحق بمفاصل حلقات مشروعه، تشكّل الخلفيّات التي تنطلق منها قراءات داخلية للسياسات والمواقف، التي من المفترض أن يعتمدها النظام ومنظومة السلطة في التعامل مع المستجدّ في الموقف الأميركي ومستقبل المفاوضات والتسويات مع المجتمع الدولي.

ترميم موقع إيران

على الرغم من الفرصة التي وجدها الخطاب الأيديولوجيّ لإعادة تنظيم صفوفه انطلاقاً من الموقف الذي أعلنه المرشد من المفاوضات، خاصة بعد حالة الانكفاء التي أصابته، سعت القوى السياسية والشعبية وبعض مراكز القرار في منظومة السلطة، بكلّ جهدها لعدم إضاعة الفرصة السانحة أمام إيران. وذلك لترميم موقعها وإعادة إنعاش أوضاعها الاقتصادية والبدء بمسار تنموي حقيقي يعيد إحياء الاقتصاد ويخفّف الأعباء المتراكمة على إيران وشعبها خلال السنوات الماضية من الحصار والانعزال عن الأنشطة الدولية، والأثمان التي تدفعها نتيجة السياسات الخارجية الموظّفة في خدمة مشروع العمق الاستراتيجي.

انحسار الخطاب الأيديولوجي وتراجعه إلى حدود الدوائر الضيّقة أمام الواقعية السياسية أو المصالح القومية، جاءا متأثّرين ومنسجمين مع طموح ورؤية اجتماعية شاملة للانتقال إلى سياسة خفض التوتّر وتفعيل الإدارات وزيادة الثقة الشعبية بالمسؤولين عن القرار، الذي من المفترض أن يكون منطقياً ومستنداً إلى الحقائق القائمة والمسيطرة على المشهد.

تعتقد القوى الداعية إلى العقلانية السياسية أنّ هذا المسار بإمكانه المساعدة في عدم الوقوع بالأخطاء السابقة في رسم واتّخاذ السياسات الداخلية والخارجية، والمساهمة في إطلاق عجلة التنمية الحقيقية التي بات الشرط فيها مدى وحجم الانفتاح الإيراني على المجتمع الدولي وتضييق مساحات الاختلاف أو الخلاف والصدام معه.

أكثر جرأة

يبدو أنّ الوسط السياسي الإيراني، في هذه اللحظة المفصليّة من تاريخ إيران والمنطقة، قد انتقل إلى مستوى جديد من التعامل مع الجهات الممسكة بالقرار الرسمي والسياسات العليا للدولة والنظام، وبات أكثر جرأة في إعلان توجّهاته وموقفه من هذه السياسات.

الدعوة إلى نهج سياسي يقوم على المنطق والأدلّة والمصالح البعيدة المدى والابتعاد عن العواطف والتعصّب والمصالح الضيّقة أو القصيرة المدى، من المفترض أن تتحوّل إلى أساس التعاطي والتعامل من قبل السياسيين والمجتمع، ومؤشّر إلى امتلاكهم عقلانية سياسية قادرة على التعامل مع مختلف التحدّيات، وتقويم نتائج قراراتهم وحجم انعكاسها وتأثيرها على المصالح الوطنية والاستراتيجية.

تزامن هذا الخطاب السياسي مع قرار المرشد الأعلى إغلاق باب التفاوض. ولكنّ التصويب على الخطاب المتشدّد والاحتفالية في مواقف الجماعات المتطرّفة، وما فيها من تعبير عن فرحة وارتياح لفشل التوجّهات الانفتاحية والإنقاذية لدى الدولة والحكومة، لم يمنع دعاة العقلانية من اعتبار العودة إلى خطاب الانعزال والتشدّد، عودة إلى السياسات العاطفية والشعبوية والأيديولوجية المحضة، في توصيف يتجاوز المتشدّدين ليلامس خطاب وموقف المرشد إلى حدّ ما.

من هنا تحذّر هذه المواقف أو الآراء، وما فيها من دعوة إلى العقلانية السياسية، من العودة إلى سياسات تشابه السياسات التي اعتمدتها الحكومة السابقة برئاسة إبراهيم رئيسي، انسجاماً مع قراءة القوى المتشدّدة والمتطرّفة، في تعاملها مع الحرب الروسية على أوكرانيا. اذ عمدت إلى ضرب كلّ الخطوات الإيجابية التي حصلت في مسار التفاوض لإعادة إحياء الاتّفاق النووي حينها، رافعةً بوجه المفاوضين شعار “الشتاء البارد” الذي سيدفع الأوروبيين إلى تقديم المزيد من التنازلات، ومراهنةً على تداعيات انقطاع الغاز الروسي عن أوروبا، الذي سيجعل من إيران حاجة لسدّ الاحتياجات الأوروبية من مصادر الطاقة.

تسوية مع أوروبا؟

تبرز أهمّية هذه التحذيرات مع ارتفاع وتيرة الرهانات لدى هذه القوى المتطرّفة، على إمكان حدوث شرخ في المواقف بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية، بخاصة دول الترويكا (فرنسا وألمانيا وبريطانيا)، على خلفيّة استبعادها من مفاوضات السلام في أوكرانيا التي انطلقت بين واشنطن وموسكو. قد تكون الفرصة سانحة أمام طهران والنظام للّعب على التباينات الحاصلة بين ضفّتي الأطلسي، والذهاب نحو نوع من التسوية مع الأوروبيين، وتحقيق هدفين:

1- قطع الطريق على التعاون الأوروبي- الأميركي في دفع الوكالة الدولية للطاقة الذرّية في جلستها المقبلة بعد شهر لإحالة الملفّ الإيراني على مجلس الأمن الدولي. وما يعنيه ذلك من إمكان تفعيل آليّة الزناد التي تسمح بإعادة تفعيل قرارات مجلس الأمن المتعلّقة بالعقوبات الدولية ضدّ إيران.

2- بدء مرحلة جديدة من التعاون الاقتصادي والمالي والتجاري المباشر مع أوروبا، بحيث تستطيع إيران التخفيف من تأثير العقوبات الاقتصادية، التي عادت الإدارة الأميركية لاعتمادها من أجل الضغط على إيران للعودة إلى طاولة التفاوض، وفرض تنازلات قاسية عليها تتجاوز البرنامج النووي إلى برنامجها الصاروخي والطائرات المسيّرة، علاوة على إجبارها على الانسحاب الكامل من الملفّات الإقليمية.

في المقابل، بات المجتمع الإيراني بكلّ مستوياته السياسية والشعبية يدرك أنّ العودة أو الاستمرار بالسياسات المتشدّدة كان السبب في كلّ الأزمات السياسية والاجتماعية نتيجة القرارات والتوجّهات المتشدّدة. وهي سياسات لا تأخذ بعين الاعتبار المصالح الوطنية والحقائق القائمة، فأدّت إلى أثمان كبيرة دفعها المجتمع الإيراني. ولذا سيساعد الابتعاد عن هذا النمط من السياسات على اتّخاذ مواقف وسطيّة وعقلانية وقرارات منطقية وفاعلة تبعد إيران عن التوتّرات والأزمات غير الضرورية.

حسن فحص

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.