ترامب بعد غزّة: لتطويع إيران وتمتين علاقته بالسّعوديّة وليد شُقَير

8

وليد شُقَير

اساس ميديا

دخلت غزة أوّل من أمس المرحلة الجديدة التي تُرسم لشرق أوسط جديد تسعى إليه واشنطن، ولم تتّضح معالمه بعد. سبقها وقف النار في لبنان الذي يختبر إمكان التكيّف مع انحسار دور إيران. ما لبثت سوريا أن لحقته. وهي تتهيّأ لاستعادة قرارها من “حرس الثورة الإيرانية”، ولصياغة تسوياتها الداخلية المتشابكة مع تعدّد النفوذ الخارجي على أرضها. العراق يجهد للتأقلم. يبقى اليمن وإيران نفسها من دول المحور.

اتّفاق غزة ينقلها من حرب الإبادة والاقتلاع الهمجية التي مارستها إسرائيل، إلى معضلة معالجة النتائج الهائلة للحرب. ومثل لبنان وسوريا، سيخضع القطاع لدينامية البحث عن صيغة لإدارته، وسط خشية من جنوح “حماس” نحو التفرّد به.

 انتفت ذريعة “إسناد” غزة من قبل طهران وأذرعها. ما دامت “حماس” توصّلت إلى اتّفاق على وقف النار وصفقة تبادل الرهائن الإسرائيليين والأسرى الفلسطينيين، تسقط حجّة دعم غزة. “أنصار الله” هدّدوا الملاحة الدولية في البحر الأحمر وبحر العرب وعطّلوا ممرّ باب المندب، واستهدفوا إسرائيل، باسم هذه الذريعة.

لاحظ سياسيون متابعون للعلاقة بين “الحزب” وحماس وأذرع إيران، أنّ صفقة غزة لتبادل الأسرى لم تشمل أسرى “الحزب” الذين وقعوا في أيدي الجيش الإسرائيلي أثناء دخوله الأراضي اللبنانية في تشرين الأوّل الماضي. هذا فيما شملت صفقة تبادل الجنديّين الإسرائيليَّين اللذين أسرهما “الحزب” عام 2006 وسبّبت حرب تموز، التي أبرمها “الحزب” عام 2008، أسرى فلسطينيين لدى الدولة العبرية. اعتبر السياسيون هؤلاء ذلك دليلاً على فصل الساحات.

الوجه الإقليميّ لاتّفاق غزّة

في معرض حديثه عن إنجازاته في إدارة التحوّلات في المنطقة قبل ساعات من مغادرته البيت الأبيض، قال الرئيس الأميركي جو بايدن إنّ اتّفاق وقف النار في لبنان أدّى إلى تخلّي “الحزب” عن “حماس”. يسمح هذا الكلام باعتبار أنّ الوجه الآخر لاتّفاق وقف الحرب في غزة هو “إسنادٌ” لاتّفاق وقف الحرب في لبنان. انقلبت الآية. وبدلاً من حرب “الحزب” لإسناد غزة، صار إنهاء الحرب في القطاع دعامة لتنفيذ اتّفاق وقفها الذي توصّل إليه “الحزب” مع إسرائيل.

على الرغم من الضغوط الأميركية على بنيامين نتنياهو لإنتاج الاتّفاقين، ترك بايدن والرئيس الذي دخل البيت الأبيض أمس، دونالد ترامب، لإسرائيل حرّية الحركة. لا يختلف الأمر عن إطلاق يد الدولة العبرية في ارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية خلال مرحلة الحرب.

لكنّ لكلّ من واشنطن وتل أبيب مسوّغاتها لإعطاء حرّية الحركة لإسرائيل. فالأولى، وتحت سقف وقف الحرب، تريد التأكّد من أنّ طهران انكفأت وسلّمت بفصل الساحات بعد الضربات التي تلقّتها. لذلك لا تمانع إدارة بايدن توجيه ضربات تحذيرية لهذه الأذرع. ولا يختلف موقف ترامب عنها في هذا المجال.

أميركا وإسرائيل: أغراض مختلفة لحرّيّة الحركة

تشمل الترجمة العمليّة للانكفاء الإيراني المطلوب بالنسبة إلى أميركا:

– تخلّي “حماس” عن طموح حكم غزة، مع ما يعنيه من ترتيب صيغة لإدارة القطاع تشارك فيها السلطة الفلسطينية برعاية عربية. وهذا يتناول بالطبع إعادة الإعمار ومعالجة الوضع الإنساني المأساوي الذي نجم عن الحرب.

– إنهاء وضع اليد من قبل “الحزب” على القرار السياسي اللبناني الرسمي والحؤول دون احتفاظه بسلاحه لهذا الغرض.

أمّا إسرائيل فيخضع مفهومها لحرّية حركة جيشها لعاملين أساسيَّين:

– جموح نتنياهو واليمين المتطرّف في إسرائيل نحو إلغاء الشريك الفلسطيني وإنكار حقّه بدولة مستقلّة. وهو ما يدفع وزراء نتنياهو، ولا سيما وزيرَي دفاعه وخارجيّته، إلى تكرار مقولة استمرار الحرب ضدّ “حماس” بحجّة منعها من العودة لإدارة القطاع.

– خضوع الاتّفاقين في لبنان وغزة للصراع الداخلي بين أقصى اليمين المتطرّف المتمثّل بإيتامار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش ونتنياهو. استقالة الأوّل فور الإعلان عن اتّفاق غزة، وتلويح الثاني بالاستقالة إذا لم تُستأنف الحرب بعد تنفيذ المرحلة الأولى من صفقة التبادل.

الرجلان يعملان لإعادة الاستيطان إلى القطاع، ولضمّ الضفّة الغربية. إلّا أنّ نتنياهو، مع تسهيله إجراءات بن غفير وسموتريتش في الضفّة، مضطرّ إلى مراعاة رفض واشنطن، حتّى إشعار آخر، ضمّها إلى “السيادة” الإسرائيلية.

إعادة تكوين السّلطة في دول المحور

يتّسق تحقيق هدف انكفاء إيران وأذرعها في المنطقة مع ما بات يسمّى “إعادة تكوين السلطة” في عدد من دولها. وهذا يفترض أن يتمّ تحت عنوان إنهاء دور اللاعبين الذين تتشكّل منهم “المنظّمات الخارجة عن الدولة” (non state actors). وقد تكون إعادة تكوين السلطة في إسرائيل أحد عناصر إعادة صياغة خريطتها السياسية في المرحلة المقبلة. فالصراع داخل الدولة العبرية له آليّاته المختلفة عن سائر الدول التي وقعت تحت نفوذ طهران لأكثر من عقدين. ولهذا حديث آخر.

إذا كانت هذه العملية ستأخذ مداها في سوريا، وستخضع لتجاذبات في غزة وفلسطين، فإنّ بداياتها في لبنان حقّقت خطوات أوّلية بإنهاء الفراغ الرئاسي. ويفترض أن تُستكمل في تشكيل حكومة، بعدما لعبت التوازنات الداخلية دوراً في اختيار نوّاف سلام رئيساً للحكومة.

الرجلان يرمزان إلى التزام الأطياف السياسية تنفيذ اتّفاق وقف الحرب الذي توصّل إليه “الحزب” مع إسرائيل عبر الوساطة الأميركية. تتّجه الأنظار نحو تشكيل حكومة، للتأكّد ممّا إذا كانت إعادة تكوين السلطة قابلة للتنفيذ بعيداً عن نفوذ إيران. مع انتفاء حجّة “إسناد” غزة، حيث تعتبر حماس، كـ”الحزب”، أنّ وقف النار “انتصارٌ” يتطلّب تغييراً في إعادة تركيب السلطة.

لا يمكن في هذا المجال الفصل بين رئاسة أميركا للّجنة الخماسية المشرفة على تنفيذ اتّفاق 27 تشرين الثاني، لوقف حرب لبنان، وبين دورها في إطار اللجنة الخماسية لإنهاء الفراغ الرئاسي وإنعاش المؤسّسات الدستورية.

منهجيّة مختلفة لتأليف حكومة سلام؟

تفيد معلومات “أساس” أنّه فيما كان رئيس البرلمان نبيه بري يضطرّ مع كلّ تأليف حكومة إلى أن يراعي طلب “الحزب” الحصول على الثلث المعطّل فيها، فتسمّي قيادته وإيّاه الوزراء الشيعة ويتدخّلون في تسمية وزراء حلفاء من طوائف أخرى ويعلّقون ولادة الحكومة على شروطهم، اختلفت منهجية التأليف مع سلام. تشير المعطيات في هذا المجال إلى أنّ الأخير اتّفق مع برّي على:

– حكومة اختصاصيّين غير حزبيين من ذوي الكفاءات العالية، لمواجهة الملفّات المعقّدة أمام الحكومة.

– أن يسمّي الرئيس المكلّف الوزراء باعتبار أنّ الدستور ينيط به التأليف بالاتّفاق مع رئيس الجمهورية.

– فصل الوزارة عن النيابة في تشكيلة من 24 وزيراً.

يعني ذلك غياب أيّ ثلث معطّل للحكومة كما كان يحصل إبّان الهيمنة الإيرانية. والمرحلة المقبلة ستختبر مدى تكيّف “الحزب” مع المرحلة الجديدة، بقبوله التحوّل إلى حزب لبناني مجرّد من فائض القوّة بحكم سلاحه. فإعادة تكوين السلطة في لبنان تقتضي إبعاد وسائل النفوذ الإيراني عن توازناتها.

هي مرحلة يفترض أن تفضي إلى جمع سلاحه شمال نهر الليطاني، إضافة إلى جنوبه، ويقتضي التفاهم معه عليها مع انتفاء مبرّرات حروب الإسناد والتحرير، إذا صدقت الوعود الأميركية بانسحاب إسرائيل الكامل من القرى الحدودية نهاية هذا الأسبوع.

اهتمامان لترامب: تطويع إيران والعلاقة مع السّعوديّة

بات مسلّماً به أنّ رغبة ترامب في دخول البيت الأبيض والحرب في المنطقة توقّفت لعبت دوراً حاسماً في ترجيح اتّفاقَي لبنان وغزّة. فاهتمام الرئيس الأميركي الجديد سيتركّز في المنطقة على هدفين:

– تطويع إيران إمّا بالعقوبات، أو باستخدام القوّة ضدّها، لاستدراجها إلى اتّفاق جديد على برنامجها النووي. ترك ترامب مجالاً للتفاوض مع طهران بقوله إنّه يريد لإيران أن تكون دولة “ناجحة”. أي أنّه يريدها أن تنكفئ داخل حدودها لتنصرف إلى التنمية، من دون توسّع في الإقليم. واختبار مدى تجاوبها في هذا المجال يتوقّف على ما تردّد في بعض الأروقة عن وساطة عُمانية بدأت قبل أسابيع تشمل أوراقاً مكتوبة جرى تناقلها.

– تمتين علاقته بالمملكة العربية السعودية التي يطمح إلى الانخراط معها سياسياً واقتصادياً في المنطقة لإعادة تكريس التفوّق الأميركي فيها.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.