اتّفاق غزّة: “أهازيج المنتصرين” على الجانبين

9

بقلم محمد قواص

«أساس ميديا»

حين أدار الرئيس الأميركي، جو بايدن، ظهره وهمّ بمغادرة مؤتمر صحافي، الأربعاء، أعلن فيه اتّفاق وقف إطلاق النار في غزّة، سمع سؤالاً من القاعة بشأن ما إذا كان الفضل في هذا الاتّفاق يعود لإدارته أو للرئيس المنتخب، دونالد ترامب. عاد بايدن واستدار متبرّماً متسائلاً: “إنّها مزحة؟”. ولئن بدا السؤال ثقيل الظلّ يخدش “نصر” الرئيس، الذي يغادر منصبه بعد أيّام بالفخر بإنجاز جَهَد ليسجّل له ولإدارته، غير أنّ التساؤل يستبطن حقائق أخرى.

 لا تخفي أوساط ترامب أنّ ذلك “النصر” هو صنيعة الرئيس الذي سيباشر مهامّه بعد أيام. تتحدّث أوساط إسرائيلية عن ضغوط استثنائية في علاقات الولايات المتحدة وإسرائيل مارسها ترامب وفريقه على رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو. تسرّبت إلى الصحف أنباء الاجتماع المتوتّر الذي جرى مع مبعوث ترامب إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، والذي انتهى إلى “الخضوع” والقبول بصفقة لم يقبلها نتنياهو منذ إعلان بايدن لها في أيار 2024.

في موشّحات المناسبة، سيمجّد نتنياهو طويلاً حكايات “نصر” حقّقه منذ بدء الحرب في 7 أكتوبر (تشرين الأول 2023). سيقدّم جيشه جردة حساب عمّا استباحه في قطاع غزة، وعمّا دمّره من بنى عيش وذاكرة وبقاء تحتاج إعادة إعمارها إلى عقود. سيفخر بارتكاب مجازر علنية، على الهواء مباشرة، حظيت، حتى بعد إعلان التوصّل إلى الاتّفاق، بتفهّم دولي يمنح إسرائيل حقّ ارتكاب المستحيل من الموبقات انتقاماً ليوم “طوفان الأقصى”.

“النصر”.. بين إسرائيل ولبنان وغزّة

أيّاً كان تقويم بنود الاتّفاق، فإنّ وزيرَي التطرّف والعنصرية، الثنائي سموتريتش وبن غفير، في الاستقالة من الحكومة أو عدمها، شريكان في أعياد “النصر”، سواء في انتقاد الاتّفاق أم في الابتزاز للقبول به، ودائماً على حساب الفلسطينيين. فالحدث يحمل ماء إلى طواحين “الحلّ النهائي” بالمعنى النازيّ للكلمة. من حيث أن لا تعامل مع المسألة الفلسطينية إلّا من بوّابة الإنكار والإبادة. تماماً وفق المقتلة التي باركاها كلّ يوم في غزّة والجراحات التي دفعا باتّجاهها في الضفّة الغربية. ومن حيث أنّ الكتلة الناخبة الإسرائيلية، ما زالت، وفق آراء إسرائيلية، تنحو صوب يمين متطرّف غير واثقة بيسار ووسط.

انضمّت إيران أيضاً إلى جوقة المنتصرين، وهي التي لا تعرف إلّا “النصر” منذ ولادة الجمهورية الإسلامية. حيّا المرشد علي خامنئي ثبات المقاومة في غزّة، فيما أعلن الحرس الثوري هزيمة إسرائيلية في القطاع. اكتشف رئيس البرلمان، محمد باقر قاليباف، أنّ إسرائيل فشلت في تحقيق أهدافها. راحت فصائل طهران في المنطقة تهتف للنصر المبين، فيما أشعل رصاص حزبها في لبنان سماء العاصمة ابتهاجاً بنصر وسط ذهول المنكوبين في البلد.

لكنّ “الطوفان” في ارتداداته أنزل خسائر فادحة بـ”المحور”. بدا ذلك الخيار مترنّحاً. قضى “الطوفان” على البنى العسكرية الثقيلة لـ”الحزب” في لبنان وعلى قائده وكبار قادته. بدا أنّ فصائل إيران في العراق مرتبكة تتراجع عن تهديداتها. فيما جماعة الحوثي في اليمن تحوّلت إلى ظاهرة “إزعاج” لا تدخل ضمن أيّ حسابات كبرى. ولئن لا يغادر “النصر” أبجديّة طهران وامتداداتها، فإنّ من حقّ غزّة أن تأمل ابتعاد المسافة التي باتت تفصلها عن طهران بعدما باتت فلسطين ورقة إيرانية خاسرة.

إسرائيل تتحضّر لـ”تحقيق”

وفي سياق “النصر”، فإنّ الجدل في منطقتنا لن ينتهي ولن يصل إلى جواب يقينيّ. وإذا ما تتحضّر إسرائيل لفتح تحقيق بصدد ما جرى في يوم “طوفان الأقصى” لاستكشاف ما جرى، ورصد مواطن الضعف والتقصير، واستخلاص العبر والدروس، ومحاسبة المسؤولين عمّا يعتبرونه إخفاقاً في “يوم أسود”، فإنّ من المستبعد أن يفتح الجانب الفلسطيني، بكلّ تيّاراته، نقاشاً، لا تحقيقاً، بشأن ظروف وتوقيت وأجندة وخارطة طريق ذلك “الزلزال”. الذي بدا، هذه الأيام، إضافة إلى ويلاته الغزّية الهائلة، أنّه قد غيّر وجه الشرق الأوسط.

وفق غياب هذا النقاش، ما زالت ترتيبات “اليوم التالي” غائبة ذات إرهاصات ضبابية تطرح أسئلة بشأن مصير حركة حماس ودورها المقبل في القطاع. كان واضحاً خطاب “النصر” في كلمة القيادي خليل الحيّة الذي قال فيها إنّ “اتّفاق وقف العدوان على غزَّة إنجازٌ لشعبنا ومقاومتنا وأمّتنا وأحرار العالم”. غير أنّ التدثّر بالنصر قد يعمي البصر والبصيرة عن مسالك مطلوبة يُعمل من أجلها العقل وعلم الحساب للعبور نحو اليوم التالي الموعود. ولئن تخفي واجهات المناسبة ما يدور داخل الغرف المغلقة، فإنّ من حقّ غزّة والثمن الذي دفعته أن يفهم أهل الحلّ والربط القواعد الجديدة لما بعد “الطوفان”.

لكنّ “النصر” بدا حقيقياً في الفرحة العارمة التي اجتاحت أهل القطاع في لحظة الإعلان من واشنطن عن توقّف “المقتلة”. بدت تلك الأهازيج معبّرة عن نصر على رحلة الموت التي عاشها الغزّيّون داخل آلة موت لا توقفها النداءات والوساطات ومواقف الدول وغضب شعبي اجتاح عواصم الغرب والشرق.

يعرف أهل القطاع أنّ بقاءهم هو صدفة وفّرتها لحظة دولية، وأنّ موت البشر من حولهم كان صدفة خارجة عن إراداتهم لم يمتلكوا ضدّها إلا الصلاة والدعاء. ومن حقّ الناس أن يفرحوا بنصر عودة آلاف من الأسرى إلى عائلاتهم واستعادتهم حرّية كانت مستحيلة، حتى لو أنّ إبعاداً خارج الوطن سيفرض على بعضهم.

غيّرت لحظة غزّة موازين القوى في الشرق الأوسط. لا أحد يشكّ في مسؤولية “الطوفان”، المباشرة وغير المباشرة، عن تحقيق اللبنانيين “نصراً” بانتخاب رئيس للجمهورية وتكليف رئيس للحكومة. والإنجاز، لا شكّ، متناسل من “نصر” تاريخي في سوريا بسقوط نظام بشّار الأسد. وهو نصر تعذّر تحقيقه وطال الوقت قبل أن يغيّر “الطوفان” قواعد اللعبة في الشرق الأوسط.

محمد قواص

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.