ترامب جديد… وشرق أوسط أجدّ (2)
بقلم نديم قطيش
«أساس ميديا»
من المتوقّع أن تعمّق عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض التهميش الذي أصاب القضية الفلسطينية، على الرغم من الأوهام حول إعادة الاعتبار لها نتيجة الحرب. لن يكون مستغرباً أن يستخدم ترامب أحداث 7 أكتوبر ذريعةً لتعزيز دعمه غير المشروط للإجراءات الإسرائيلية في غزة وربّما في الضفة الغربية، مع تبنّي نهج يركّز على إدارة الأزمات الإنسانية بدلاً من السعي نحو حلّ سياسي شامل.
في مقابلة مع مجلّة Time الأميركية شدّد ترامب على أهمّية تحقيق “سلام دائم” من دون الالتزام الصريح بحلّ الدولتين. وأكّد تبنّيه نهجاً مرناً، مشيراً إلى أنّ السلام يمكن أن يتحقّق بطرق “متعدّدة”، مع تركيزه على منع دوّامة العنف، مثل الأحداث التي وقعت في 7 أكتوبر.
إذ أشار ترامب إلى دوره في منع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من ضمّ الضفة الغربية خلال ولايته الأولى، إلّا أنّه لم يوضح ما إذا كان سيتّخذ إجراءً مشابهاً في ولايته الثانية. كما أعرب عن انفتاحه على مختلف الحلول التي تحقّق السلام، مؤكّداً أولوية خفض العداوات بدلاً من التمسّك بقوالب دبلوماسية تقليدية مثل حلّ الدولتين.
التّطبيع العربيّ الإسرائيليّ
تجدّد عودة ترامب إلى البيت الأبيض تسليط الضوء على ملفّ التطبيع العربي-الإسرائيلي، الذي يُعدّ أحد أبرز إنجازاته في ولايته الأولى من خلال الاتّفاق الإبراهيميّ. ولئن جعل تصاعد التوتّرات الجيوسياسية في المنطقة إدارة هذا الملفّ أمراً أكثر تعقيداً، إلا أنّ ذلك سيحمّس ترامب، المعروف بنهجه البراغماتي القائم على “الصفقات الكبرى”، لجعل توسعة اتفاقات التطبيع أولويّة قصوى.
يُعدّ، في هذا السياق، لقاء المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف مع وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، مؤشّراً إلى جهود إدارة ترامب المرتقبة لإحياء مسار التطبيع السعودي الإسرائيلي، وترجمةً لرهان ترامب على إمكانية التوصّل إلى “صفقة كبرى” تشمل سلاماً تاريخياً بين السعودية وإسرائيل.
على الرغم من تعثّر جهود إدارة الرئيس جو بايدن في هذا المجال بسبب هجمات “حماس” في 7 أكتوبر، والمطالب السعودية بربط الاتّفاق بخطوات واضحة نحو إقامة دولة فلسطينية، يُراهن البعض في العاصمة الأميركية على أنّ إدارة ترامب ستنجح في دفع السعودية لتخفيف موقفها من هذا الشرط. ففي ظلّ الانتصارات العسكرية الإسرائيلية الأخيرة ضدّ إيران ووكلائها في المنطقة، من الصعب جدّاً أن تتجاوز تنازلات تل أبيب خطوات محدّدة تسهم فقط في “إحراز تقدّم ملموس في الملفّ الفلسطيني.
يسوّق أعضاء في فريق ترامب أنّ إحياء خطّة “السلام من أجل الازدهار”، التي تشمل تطبيعاً واسع النطاق، قد تكون مفتاحاً لإحراز تقدّم في حلّ الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وليس العكس، بما يتيح للسعودية وإسرائيل التفرّغ لترتيبات إقليمية استراتيجية، تتوازى مع دعم قويّ لإعادة إعمار غزة. وتُمثّل هذه الصفقة فرصة لترامب لتحقيق إنجاز دبلوماسي كبير يكرّس إرثه في الشرق الأوسط، ويقرّبه من الترشّح لنيل جائزة نوبل للسلام.
سوريا: تثبيت هزائم إيران
فرض سقوط نظام الأسد نفسه على أجندة ترامب، من خارج جدول الأعمال والتوقّعات. فالحدث الجيوسياسي الضخم سيمتحن سياسة إدارته تجاه سوريا، وهي تسعى إلى الموازنة المعقّدة بين الفرص التي يوفّرها سقوط الأسد، والتحدّيات التي تغلي تحت السطح السوري. فتصريحات ترامب الأوّلية التي تؤكّد أنّ “سوريا ليست معركتنا” تؤكّد ميوله الانعزالية، ورغبته الحقيقية في خفض التورّط الأميركي في النزاعات الخارجية.
بيد أنّ الحقائق الجيوسياسية المستجدّة في المنطقة قد تدفعه لتبنّي نهجاً أكثر براغماتية، لا سيما إن بدا أنّ تحقيق المصالح الأميركية من دون تكاليف باهظة، في سوريا، أمر ممكن، مثل استغلال التحوّلات السورية لتثبيت هزائم إيران الإقليمية وتعزيز أمن إسرائيل، وانتزاع تنازلات من روسيا.
قد يكون سقوط الأسد فرصة نادرة لإعادة تشكيل مستقبل سوريا والمنطقة، من دون أن تتحمّل الولايات المتحدة أعباء تغيير النظام، وعبر إدارة التناقضات الناتجة عن انشغال القوى الإقليمية، مثل تركيا وروسيا وإيران، بإعادة تحديد دورها في سوريا.
علاوة على ذلك، يفتح سقوط الأسد الباب أمام إعادة صياغة التحالفات في المنطقة، في ضوء ضعف نفوذ إيران في سوريا، وتهاوي قدرتها على دعم حلفائها، مثل “الحزب”. ويعزّز هذا التطوّر أيضاً فرص توسيع الاتّفاق الإبراهيمي، من دون خشية الأطراف المعنيّة من ردود إيرانية انتقامية كما في السابق.
على جانب آخر، تظلّ التحدّيات في سوريا هائلة. فالفراغ الذي خلّفه سقوط الأسد يهدّد بمزيد من التفكّك، مع تنافس الفصائل المختلفة على السيطرة، وصعود مجموعات جهادية مثل “هيئة تحرير الشام”، التي تمتدّ جذورها إلى شبكات إرهابية، وتتّصل في تحوّلاتها الأخيرة بتنظيمات الإسلام السياسي، وما يشكّله هذا الصعود من خطر على دول المنطقة.
عليه، لا يبدو واضحاً ما إذا كانت إدارة ترامب ستغلّب هذه الحقائق والفرص والمخاطر على ميولها الانعزالية. كما لا يبدو معروفاً المدى الذي سيذهب إليه ترامب بشأن اعتماد الدبلوماسية القائمة على الصفقات والانخراط الانتقائي، مقروناً بتفويض رعاية الاستقرار الإقليمي للحلفاء والشركاء كإسرائيل والدول العربية.
خلاصة: محنة “التّدخّل الخارجيّ”
الوضوح النسبي الذي اتّسمت به سياسات ترامب في الشرق الأوسط خلال ولايته الأولى يبدو أنّه لن يواكب تعقيدات ولايته الثانية. تواجه الإدارة الجديدة اختباراً استراتيجياً عميقاً يتمثّل في تحقيق مواءمة صعبة ومعقّدة بين خطابها الشعبوي الداعي إلى تقليص التدخّل الخارجي، وبين الوقائع الجيوسياسية المتغيّرة على الأرض التي قد تفرض على واشنطن تدخّلات غير مرغوبة.
سقوط نظام الأسد، وتداعيات الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وتنامي أدوار الفاعلين الإقليميين كتركيا وإيران، وعودة التنظيمات الجهادية إلى واجهة الفعل السياسي… تشكّل ضغوطاً مستمرّة على الإدارة لإعادة صياغة أولويّاتها واستراتيجيات التعامل مع احتمالات توسّع الاضطراب الإقليمي.
ستحتاج إدارة ترامب إلى مقاربة سياسية تتجاوز الشعارات التقليدية لـ”أميركا أوّلاً”، لتقديم رؤية توازن بين حماية المصالح الحيوية الأميركية وتجنّب الغرق في مستنقعات جديدة، وسيكون هذا التحدّي اختباراً فعليّاً للإرث السياسي الذي يطمح ترامب أن يتركه خلفه.
نديم قطيش