لأسباب ثلاثة: حلّ الكهرباء ممنوع!

67

بقلم جان عزيز

«اساس ميديا»

أسوأ أو حتى أخطر ما يُحكى عن مسؤولية جبران باسيل أو وليد فياض أو مجلس إدارة كهرباء لبنان، أو حتى إحالة نجيب ميقاتي للملفّ إلى التفتيش المركزي أو النيابة العامة… أنّ هذا الكلام مجتزأ. هو تعمية على حقيقة الفضيحة، وتستّرٌ على عمق السرقة، وإخفاءٌ لما قد يكون من أكبر الجرائم بحقّ لبنان، التي ارتُكبت بعيون مفتوحة، وبشكل مدروس متعمّد منهجي ومقصود. فهؤلاء مسؤولون مقصّرون فاشلون فاسدون مرتكبون، نعم. لكنّ القضيّة أكبر.

لذلك لا يصحّ تفصيل ما سبق بالعموميّات والتعميات. بل بالأرقام والوقائع. ومنها البداية.

البداية من الأرقام التي خاض ميشال عون معركة للوصول إليها، والتي يتباهى جبران باسيل بأنّ مطالباته أنجزتها.

ها هو التدقيق المالي الجنائي الذي وضعته شركة ألفاريز ومارسال، يكشف التالي:

بين عامي 2010 و2021، أحرقت (وهو التوصيف الفعليّ والحرفيّ – أحرقت) كهرباء لبنان 19 مليار دولار أميركي، طبعاً من مدّخرات اللبنانيين.

فضلاً عن إحراق وزارة الطاقة مباشرةً، بمعزل عن الكهرباء، 5.6 مليارات دولار أخرى. وللدقّة أكثر هي 5 مليارات و608 ملايين و275 ألفاً و211 دولاراً أميركياً، كما وثّقها تقرير ألفاريز في الصفحة الـ70 منه. وهي أموال لا علاقة لها إطلاقاً بفيول الكهرباء.

وفيما لا تبرير إطلاقاً لهدر ما يفوق 5,600 مليون دولار مباشرة، من قبل شخص ادّعى طوال تلك الفترة أنّهم “ما خلّوه”، يبقى تبرير الـ19 مليار دولار المحروقة في الكهرباء واضحاً. إنّها ثمن محروقات نفطية، لزوم إنتاجنا الكهربائي طوال تلك الفترة.

النائب ميشال ضاهر، وهو الخبير في المجال، دقّق في الأرقام المكتشَفة. وكشفَ بدوره قبل سنة كاملة أنّ المبلغ المحروق كان يكفي، وفق أسعار الفترة المقصودة بالتدقيق، لشراء 46 مليون طن من الفيول، أي نحو 4.6 ملايين طن كلّ سنة من السنوات العشر المحدّدة بالتدقيق. وهو ما يكفي في حينه لإنتاج نحو 2,625 ميغاواط/ساعة، أي ما يفترض أن يوفّر تيّاراً كهربائياً على مدى 24 ساعة في اليوم، طوال السنوات العشر تلك.

وهذا ما لم يحصل طبعاً.

يومها سأل النائب الضاهر عن جواب. وقيل أنّ المسكين وليد فياض اتّصل به للتبرير بأنّ وزارة الطاقة لا تستورد هذا النوع من المحروقات بهذا الثمن، بل تستورد نوعاً آخر بسعر أعلى بكثير. ولا حاجة إليه أصلاً… من دون مزيد من تفاصيل تقنيّة.

حرق أموال النّاس

الخلاصة أنّنا كنّا طوال تلك الأعوام، وقبلها وبعدها، نُحرق أموال الناس، بشكل إرادي واعٍ، مقابل إنتاج أزمة كهرباء. فهل السبب غباء لدى المعنيّين؟ طبعاً لا.

ثمّة أسبابٌ ثلاثة لتلك الفضيحة الجريمة.

1- ضرب البلد.

نعم وبكلّ وضوح كان المطلوب ضرب البلد.

ذلك أنّ حلّ أزمة الكهرباء منذ عقود، كان سيعني انتظام عمل الاقتصاد اللبناني برمّته إلى حدّ كبير، بما يعني من انتظام الصناعة واقتصاد المعلوماتية وقطاع الخدمات ومعظم جوانب الازدهار المعاصر للمجتمعات المتقدّمة.

وبالتالي، كان لهذا الحلّ أن يعيد إلى حدّ كبير الانتظام إلى الماليّة العامة وإلى الخزينة العامة والمال العام، وبالتالي إلى دولة لبنان. فلا ينهار قطاع مصرفي ولا تندثر عملة وطنية ولا تُمحى طبقة وسطى ولا يحصل شيء من كلّ الكوارث التي ضربت لبنان.

ذلك أنّ ما أفلس البلد فعليّاً مزرابان اثنان للهدر بشكل رئيسي: الكهرباء، ودعم الليرة تجاه الدولار.

كلّ من المزرابين أحرق من مدّخرات الناس نحو 40 مليار دولار. والمزرابان يصبّان في الغرض نفسه: تدمير البلد.

هنا تبرز نظريّتان معلنتان. واحدة يردّدها محور “الممانعة”، ومفادها أنّ واشنطن هي من خطّط ونفّذ هاتين الضربتين في سياق محاصرتها للوضع اللبناني للضغط على “الحزب” عبر جوع اللبنانيين. ولائحة اتّهام تلك السردية طويلة. من منع التعاون مع إيران كهربائياً، إلى خبريّة منع توتال من استخراج ثرواتنا البحرية، وما بينهما من روايات.

في المقابل ثمّة نظرية مقابلة يقدّمها خصوم “الحزب”، مفادها أنّه لم يكن للأخير يوماً أيّ مصلحة ببناء دولة ووطن لأنّ بلداً مزدهراً يناقض نموذجه بالمطلق. فضلاً عن أنّه يُفقده خزّان تعبئته الشعبي، إذا ما صارت الطبقة الوسطى وازنة وغالبة بين اللبنانيين.

يزعم خصوم “الحزب” أنّ مشروعه الداخلي كان على عداء مطلق مع مفهوم الدولة الحامية والراعية والآمنة والمستقرّة، من مصرفها إلى مدرستها وجامعتها ومستشفاها… وصولاً إلى سيادتها على أرضها. فإذا توافر كلّ ذلك، فماذا يشتغل “الحزب” عندها؟ وبماذا يضبط ناسه وبيئته؟!

حتى إنّ خصوم “الحزب” يذهبون أبعد في كلام علنيّ لبعضهم. يتّهمون الأخير بأنّه عمل على تدمير كلّ ما سبق منهجياً، بحيث يؤدّي ذلك خلال أعوام قليلة إلى “تهشيل” كلّ من يحلم بدولة، فيهاجر هؤلاء نهائيّاً، ولا يبقى من ديمغرافيا كلّ الطوائف إلّا من يقبل ويتكيّف مع منظومة “الميليشيا” بدل مؤسّسة الدولة… ودوماً بحسب أعداء “الحزب”.

مزراب الكهرباء وطوفان الوطن

المهمّ أنّه أيّاً كانت النظرية الصحيحة يظلّ المؤكّد أنّ مزراب الكهرباء ساهم بشكل رئيسي في طوفان الوطن حتى سقوطه.

2- سببٌ ثانٍ للأزمة، لا يقلُّ تثقيلاً وتهديماً. إنّه ما يُختزل بعبارة “التهريب إلى سوريا”.

هو عنوان بسيط لإشكالية عميقة جداً وخطيرة. رأس جبل جليدها كان فضيحة تهريب المحروقات من لبنان إلى سوريا.

بلغَ الأمر في ذروته أكثر من ثلث فاتورتنا النفطية، التي تخطّت 6 مليارات دولار سنوياً في تلك الفترة. وهو ما يعني أكثر من مليارَي دولار من أموال اللبنانيين كانت تُحرق في سوريا سنوياً. فضلاً عن أبواب التهريب الأخرى طبعاً. لذلك القضية هنا إشكالية كبيرة مرتبطة بعلاقة البلدين ونسيج المافيات بينهما وروابط منظومات الحكم فيهما.

المهمّ أنّ هذا الحجم من النزف من مدّخرات اللبنانيين كان يؤثّر سلباً أيضاً على قدرة لبنان على إنتاج الكهرباء فيما لو أراد مسؤولوه ذلك لأنّ الفاتورة النفطية عندئذ كانت ستفضح التهريب أكثر. تصوّروا فاتورة نفطية بـ8 مليارات دولار مثلاً لإنتاج كهربائي لم يتخطَّ يومها 16 ساعة عموماً!

لذلك أُريد لأزمةِ الكهرباء أن تستمرّ، خصوصاً أنّ المهرّبين من خزمتشية المنظومة كاملة. لا بل صاروا اليوم وجهاء وأصحاب مليارات وفاعلي خير في المؤسّسات الاجتماعية والتربوية وحتى الدينية. يشترون براءة موبقاتهم بمكرماتهم المنهوبة من مدّخرات اللبنانيين.

لكلّ من هؤلاء من يحميه من ديوك المذاهب. وجردُهم بسيط جداً. يكفي أن تمسحوا أسماء “الرعاة” (Sponsors) البلاتينيين والذهبيين للمهرجانات التي ينظّمها ديوك المذاهب (وزوجاتهم وأبناؤهم ونوادي بلداتهم وجمعيات زبانياتهم) لإقامة بيان كامل بمن يحمي كلّ مهرّب.

في السياق نفسه، تقع فضيحة شركات استيراد المحروقات التي توزَّعَ مالكوها هم أيضاً على ديوك المذاهب. يستفيدون كلّهم من استيرادٍ مضخّم (لذلك قال فياض إنّهم يستوردون صنفاً أغلى لا نحتاج إليه). ثمّ يُفيدون حُماتهم من أركان المنظومة.

تجّار شيكات لا تجّار محروقات

الأنكى أنّ هؤلاء تحولّوا طوال الأعوام الخمسة الأخيرة تجّار شيكات أكثر منهم تجّار محروقات. إذ شكّلوا أكبر شبكة لشراء شيكات اللولار من المودعين المنهوبين، ليسدّدوا بها رسوم استيرادهم وضرائبهم بوفر بلغ 88% أحياناً!

هي لعبةُ انتفاعٍ متبادلٍ. لم يكسرها أحد قطّ. على الرغم من دخول “لاعبين” جدد على اللعبة، وعلى الرغم من تنقّل بعضهم من حماية هذا الزعيم إلى ذاك، ظلّ صمت المافيات، أو “أومرتا” كما تسمّيها عائلات صقلية، هو قانون لعبة الاستيراد والانتفاع والتنفيع حتى اللحظة.

3- يبقى سببٌ ثالث غيرُ بسيط لضرورة استدامة اللاكهرباء.

إنّه عالم مولّدات الإنتاج الخاصّ. وهذه ليست مزحة ولا مجرّد هامش عابر.

فلنتذكّر مجدّداً أنّ مزرابين اثنين أفلسا البلد، الكهرباء ودعم الليرة.

دعم الليرة لم يكن القصد منه حماية المواطن، بل تأمين زبائنية منظومة السلطة، إذ كانوا يدفعون سنوياً نحو ستّة مليارات دولار رواتب لقطاع عامّ محشوّ بأنصارهم، فضلاً عن باقي الخدمات الرسمية الأخرى، من المستشفى إلى الزفت، إلى كلّ ما تيسّر لزبائنيتهم من أمراض أو رواسب كبريتية.

هذا كلّه بدأ يتضاءل منذ عقد ونيّف. وبدأت الحاجة إلى مواردَ جديدة لاستدامة الماكينة. فكانت تركيبة المولّدات جزءاً من البدائل. وهي جزءٌ لا يمكن الاستهانة به على الإطلاق.

يعطي العارفون هذه الأرقام للدلالة: فاتورة محروقات المولّدات الخاصة اليوم نحو 2.5 مليار دولار سنوياً. والتقديرات أنّ 1.5 مليار منها يذهب لمولّدات الاشتراكات. مع هامش ربح لا يقلّ عن 20%. وهو ما يعني ربحاً صافياً لا يقلّ عن 300 مليون $ سنوياً.

إنّه مصدر تمويل لديوك المذاهب يتخطّى أيّ مصدر آخر منذ اندلاع الأزمة قبل خمس سنوات أو حتى منذ بداية “زمن المِحْل” منذ أكثر من عقد.

فكيف يتركون مزراباً كهذا؟

العارفون يضيفون أنّ أكثر من 90% من أصحاب المولّدات هم واجهات. فيما المالكون الحقيقيون قلّة قليلة استحوذت على تجمّعات توليدية كبرى، بحماية ديك مذهبي، كلّ حسب منطقته.

أهميّة هذه التركيبة أنّها شكّلت بنية تحتية سلطوية خدماتية وأمنيّة في كلّ لبنان.

تصوّروا هناك أكثر من ألف بلدية. تصوروا – أو هكذا تصورت المنظومة- قسماً منهم، نصفهم أو أقل أو أكثر، وقد بات على علاقة تنفيع وانتفاع مع ديك المولّدات في “البلوك” الكهربائي التابع والخاضع له، فتبدأ بين “الريّس” “والمولّد” شبكة التوظيف وشبكة المعلومات (في مناطق معيّنة) وشبكة التمويل.

لذلك لم يُفاجأ كثيرون في الانتخابات الأخيرة حين رأوا عدداً من خرّيجي كبار تجمّعات المولّدات مرشّحين على لوائح أكثر من ديك مذهبي…

لكلّ ذلك ولأكثر منه بكثير ممنوع حلّ الكهرباء.

انتهت الفضائح ههنا؟! بل هناك الكثير الكثير بعد. مثل أخبار الحيّات، أو الثعابين، كما يقول المثل… حرفيّاً!

جان عزيز

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.