إسرائيل تخيّر الشعب الفلسطيني بين المجازر أو الإبادة
كتب عوني الكعكي:
تاريخ إسرائيل ملطّخ بآثار المجازر التي ارتكبتها بحق الشعب الفلسطيني… فمنذ ما قبل “نكبة” عام 1948 وحتى اليوم والفلسطينيون ضحية إجرام إسرائيل ومسؤوليها.. والهدف واضح… إنّ الصهيونية بشكل عام ودولة الاحتلال تسعى الى سحق الشعب الفلسطيني للتخلص منه، رغبة في إقامة دولة يهودية “خالصة”.
وجاءت استقالة مدير مكتب المفوضية السامية في نيويورك كريغ مخيبر، احتجاجاً على ما ترتكبه إسرائيل في قطاع غزة من حرب إبادة جماعية، ولأنه لم يعد يتحمل رؤية الأطفال القتلى، والنساء والشيوخ الذين تناثرت أشلاؤهم في كل مكان.
إنها حقاً مأساة كبرى… إنها جريمة العصر بالتأكيد.
وطوال 75 عاماً من احتلال الكيان للأراضي الفلسطينية كان سجل إسرائيل مليئاً بمجازر وحشية ارتكبها جيش الاحتلال والمستوطنين اليهود بحق أبناء الشعب الفلسطيني، الى درجة تحوّلت المجازر الى إبادة جماعية في غزة.
أما تاريخ المجازر التي ارتكبتها إسرائيل ضد غزة فتأتي هذه المجزرة في مقدّمة هذه المجازر جميعها. لقد دُمّرت غزة بنسبة 90%، وارتقى أكثر من 40 ألف شهيد جلّهم من الأطفال والنساء والشيوخ والمدنيين العُزل.
وقد تبارى كل المسؤولين الاسرائيليين في الادعاء بأنه أكثر دموية من غيره… بدءاً برئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت اليميني المتطرّف، وإيتمار بن غفير وزير الأمن القومي، ودانيال هاغاري المتحدث باسم جيش الدفاع الاسرائيلي، والمعارض يائير لابيد رئيس الوزراء السابق وغيرهم وكلهم وجوه متشابهة لعملة واحدة.
لقد قتل الفلسطينيون في غزة بوحشية من دون تمييز في منازلهم وكنائسهم ومساجدهم ومدارسهم ومستشفياتهم وأفلام الڤيديو المنتشرة توثق حالات اولئك الأبرياء، في حين يقضي من تبقى جوعاً وحرماناً وعطشاً، وأكبر مجزرة ارتكبتها إسرائيل حين قتلت المصلين عند صلاة الفجر في مدرسة التابعين بدم بارد… وكأنّ شيئاً لم يكن.
وخير دليل على الهمجية تلك، ما أقدم عليه كريغ مخيبر مدير مكتب المفوضية السامية لحقوق الانسان في نيويورك حين قدّم استقالته مفنداً أسبابها معلناً انه لا يمكن أن يتحمّل المجازر الاسرائيلية في غزة والضفة الغربية.
وجه كريغ مخيبر (وهو مدير مكتب المفوضية السامية لحقوق الانسان في نيويورك) في تاريخ 28 تشرين الاول (أكتوبر) 2023، الى المفوض السامي لحقوق الانسان فولكر تورك، كتاب استقالة من منصبه بعد ثلاثة عقود من العمل في أروقة الأمم المتحدة احتجاجاً على ما يحدث في غزة من إبادة، وهنا ترجمة نص رسالة الاستقالة:
حضرة المفوض السامي،
ستكون هذه رسالتي الرسمية الأخيرة التي أوجهها إليكم بصفتي مدير مكتب المفوضية السامية لحقوق الانسان في نيويورك.
أكتب هذه الرسالة في لحظات من الألم الشديد يعيشها العالم بأسره، بما في ذلك العديد من زملائنا. فها نحن نشهد مرة أخرى إبادة جماعية تنكشف أمام أعيننا. في حين تبدو منظمتنا عاجزة عن وقفها. وهذه القضية شخصية جداً بالنسبة لي نظراً الى تجاربي السابقة في مهام التحقيق في انتهاكات حقوق الانسان في فلسطين منذ الثمانينات. وكوني عشت في غزة كمستشار للأمم المتحدة في مجال حقوق الانسان في التسعينات، ونفذت العديد من البعثات المتعلقة بحقوق الانسان هناك قبل ومنذ ذلك الحين فقد عايشت أيضاً خلال عملي في أروقة هذه المنظمة عمليات الإبادة الجماعية التي استهدفت مسلمي البوسنة والإيزيديين والروهاينغا، وفي كل مرة، عندما كانت تتكشّف الفظائع المرتكبة ضد السكان المدنيين العُزّل، كنا نتأكد أكثر فأكثر من اننا قد فشلنا في واجبنا المتمثل في حقن الدماء.
حضرة المفوض السامي،
بصفتي محامياً مدافعاً عن حقوق الانسان، فأنا أعلم جيداً أنّ مفهوم الإبادة الجماعية، غالباً ما كان عرضة للاستغلال السياسي. غير ان المذبحة الجماعية الحالية التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني، المتجذّرة في إيديولوجية استعمارية استيطانية عرقية قومية تشكّل استمراراً لعقود من الاضطهاد والتطهير الممنهج والمستندة بالكامل الى صفتهم كعرب والمقترنة بإعلانات نوايا صريحة لقادة في حكومة وجيش إسرائيل لا تترك مجالاً للشك أو النقاش.
في غزة تتعرّض منازل المدنيين والمدارس والكنائس والمساجد والمؤسسات الطبية لهجمات عشوائية. فيما يتم ذبح الآلاف من المدنيين. وفي الضفة الغربية، بما في ذلك القدس المحتلة، يتم الاستيلاء على المنازل ونقل ملكيتها استناداً كلياً الى الانتماء العرقي. فيما يرتكب المستوطنون المذابح بحق الفلسطينيين بمرافقة وحدات عسكرية إسرائيلية.
إنّ هذا هو مثال نموذجي عن الإبادة الجماعية. لقد دخل المشروع الاستعماري الاستيطاني القومي العرقي الأوروبي في فلسطين مرحلته النهائية، أي التدمير المتسارع لآخر ما تبقى من الحياة الفلسطينية الاصلية في فلسطين. علاوة على ذلك، تتواطأ حكومات الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وعدد كبير من بلدان أوروبا بصورة كاملة مع إسرائيل في هذا العدوان المروّع.
بالتزامن مع ذلك، تنتهك وسائل الاعلام الغربية التي باتت أكثر ارتهاناً وتحيّزاً لسياسات دولها، بشكل صارخ المادة 20 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، إذ تستمر في تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم لتسهيل الإبادة الجماعية.
اما شركات وسائل التواصل الاجتماعي التي تتخذ من الولايات المتحدة مقرّات لها، فتعمل على قمع أصوات المدافعين عن حقوق الانسان في حين تقوم بتضخيم الدعاية المؤيدة لإسرائيل.
وفي مثل هذه الظروف، لا شك ان منظمتنا مطالبة أكثر من أي وقت مضى باتخاذ إجراءات فعّالة… لكننا لم نكن على قدر التحدّي.
لقد أدّت عقود من الإلهاء، بفعل وعود “اتفاقية أوسلو” الوهمية والمخادعة الى تحويل منظمتنا عن واجبها الأساسي المتمثل في الدفاع عن القانون الدولي وحقوق الانسان. لقد أصبح شعار “حلّ الدولتين” أشبه بدعاية منتشرة في أروقة الأمم المتحدة.
لقد استسلمت أجزاء رئيسية في الأمم المتحدة في العقود الأخيرة لنفوذ الولايات المتحدة، ورضخت للخوف من اللوبي الاسرائيلي، فتخلت عن مبادئها وتراجعت عن القانون الدولي. لذا خسرنا الكثير من مصداقيتنا. لذا وجب التكفير عن ذنوبنا.
أما كيف؟ فإنّ السبيل الوحيد للتكفير عن هذه الذنوب واضح. علينا التنديد بالإبادة الجماعية. وهنا يجدر التذكير على الرغم من ادعاءات اللوبي الاسرائيلي، فإنّ انتهاكات إسرائيل لحقوق الانسان لا يعتبر معادياً للسامية، لكنني أعلق أيضاً الآمال على هيئات الأمم المتحدة التي رفضت التنازل عن مبادئ حقوق الانسان الأممية على الرغم من الضغوط الهائلة.
وهنا علينا الالتزام بما يلي:
أولاً: التوجه المشروع: أي التخلي عن نموذج “أوسلو” الفاشل والمخادع. والتوجه فعلاً نحو حقوق الانسان.
ثانياً: وضوح الرؤية: فالصراع بين إسرائيل والفلسطينيين ليس مجرّد نزاع على الأرض أو هو صراع ديني، ولكن الاعتراف بوجود دولة قوية مدعومة دولياً تستعمر السكان الاصليين وتضطهدهم.
ثالثاً: يجب قيام دولة واحدة قائمة على حقوق الانسان، دولة ديموقراطية علمانية على أرض فلسطين التاريخية كاملة مع حقوق متساوية للمسيحيين والمسلمين واليهود.
رابعاً: مكافحة الفصل العنصري.
خامساً: العودة والتعويض.
سادساً: الحقيقة والعدالة.
سابعاً: الحماية.
ثامناً: نزع السلاح من الجميع.