انهيار الأسواق: بجعة سوداء قبل الانتخابات الأميركيّة

42

بقلم عبادة اللدن
«اساس ميديا»
تعطس أميركا فيصاب العالم بالزكام. تلك المقولة القديمة جدّدت نفسها في الدراما التي أفقدت بورصات العالم نحو 6.4 تريليونات دولار من قيمتها السوقية يوم الإثنين. لكنّ جهود التنبّؤ تنصبّ الآن على استشراف ما إذا كان ما حدث حالة ذعر مبالغاً فيها أم بجعةً سوداء لدورة ركود تقبل عليها الولايات المتحدة وتجرّ العالم إليها.
من مفارقات الأقدار أن يأتي هذا الاضطراب الاقتصادي في حمأة السباق الرئاسي الأميركي، ليذكّر بالسيناريو الذي حدث قبل أربع سنوات، حين عصفت جائحة كورونا بالاقتصاد، ووجّهت ضربة قاصمة لدونالد ترامب في الأمتار الأخيرة من السباق. ولذلك يحذّر الديمقراطيون ومرشّحتهم كامالا هاريس من أن يكونوا ضحيّة سيناريو مشابه.
الانهيار المباغت
كان انهيار الأسواق الجمعة والإثنين الماضيين مباغتاً. مساء الأربعاء الماضي، تحدّث رئيس الاحتياطي الفدرالي الأميركي جيروم باول للصحافة لإحدى وخمسين دقيقة. سئل في دقائق البيانات الاقتصادية والتوقّعات، وبدا مرتاحاً إلى مسار الأوضاع، ولم يكن أحد يتوقّع الدراما التي وقعت بعد ساعات قليلة.
كانت البيانات الاقتصادية تدعو إلى الارتياح، ولو أنّ باول تحدّث بلهجة جديدة عن ضرورة الموازنة بين محاربة التضخّم والتنبّه إلى مخاطر الضعف في سوق العمل. لكنّه بدا واثقاً من أنّ الاحتياطي الفدرالي يسير على الطريق الصحيح للتوفيق بين هدفين يصعب الجمع بينهما: السيطرة على التضخّم من دون دفع الاقتصاد إلى الركود. التضخّم عند 2.5%، والنموّ الاقتصادي يفوق 2%، والبطالة قريبة من 4%. كان السؤال الأصعب عن توقيت البدء بدورة خفض الفائدة. فالبدء بها قبل الأوان ينذر بإفلات وحش التضخّم بعد السيطرة عليه، والتأخّر ينذر بترك الفائدة المرتفعة تفعل فعلها المؤذي في النشاط الاقتصادي.
بعد أقلّ من 48 ساعة، صدرت بيانات سوق العمل، وأظهرت زيادة في فرص العمل أقلّ بكثير من توقّعات المحلّلين، وارتفاعاً للبطالة أكثر من التوقّعات، لتصل إلى 4.3%. استنتجت الأسواق في لحظتها أنّ الركود الذي تفرّ منه أميركا مقبل إليها، وأنّ الاحتياطي الفدرالي تأخّر بالفعل في خفض الفائدة، فهوت الأسواق الأميركية، وتبعتها الأسواق العالمية الأخرى يوم الإثنين.
الأسواق بالغت بالرّدّ
كثيرون يرون أنّ ردّ فعل الأسواق كان مبالغاً فيه. فرقم الـ 4.3% ليس مرتفعاً إلى حدّ مقلق، ولا يشير بذاته إلى وقوع الاقتصاد في الركود، خصوصاً أنّ بيانات أخرى تشير إلى أنّ الاقتصاد ما زال يتوسّع، ولو بوتيرة أبطأ من العام الماضي. غير أنّ هذا الذعر الأخير يشير إلى أمرين:
1- أنّ أسواق المال متحفّزة لتصحيح قويّ، والمستثمرون متيقّظون لأيّة إشارة مقلقة تدفعهم إلى البيع. ولهذا التحفّز أسباب لا تتعلّق فقط بحال الاقتصاد، بل بأنّ أسواق الأسهم سجّلت موجات متتالية من الارتفاعات القياسية بلا هوادة أو استراحة منذ جائحة كورونا حتى اليوم، خصوصاً حين يتعلّق الأمر بأسهم التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي. وقد بدأ الحديث أخيراً عن “فقاعة الذكاء الاصطناعي”، وهي كناية عن المبالغة في تقدير العوائد المتوقّعة للشركات التي تنشط في هذا القطاع، خصوصاً بعدما أتت أرباحها في الربع الثاني من العام الحالي مخيّبة للتوقّعات.
2- أنّ الاحتياطي الفدرالي في وضعٍ دقيق للغاية، وأنّه يواجه صعوبة كبيرة في إصابة التوقيت الملائم لخفض الفائدة. وقد باتت مهمّته الآن أكثر تعقيداً لأنّه إن سرّع الخطوات لتخفيضها فقد يصيب الأسواق بذعر أكبر، وإن تريّث فسيتّهم بعدم التقاط الإشارة المبكرة إلى الخطر المحدق بالاقتصاد والأسواق.
حتى الآن، يميل معظم الخبراء إلى أنّ من المبالغة المقارنة بين هلع الأسواق في الأيام الأخيرة والأزمات التي ضربت الأسواق في العقود الماضية، من قبيل “فقاعة الإنترنت” عام 2002، وأزمة الرهن العقاري عام 2008. لكنّه بالتأكيد ليس حدثاً عابراً.
غير أنّ اللحظة السياسية تحيط اضطرابات الأسواق بسياق مختلف، وتضع مجلس الاحتياط الفدرالي ورئيسه في موقف حرج، لأنّ أيّ قرار بخفض الفائدة قبل الانتخابات الرئاسية سيكون له توظيف لا مفرّ منه في الحملات وخطابات المرشّحين.
ولا يغيب عن ذهن رئيس الاحتياطي الفدرالي أنّ ترامب حذّره قبل أشهر قليلة من أن يخفض الفائدة قبل الانتخابات لإعطاء أفضليّة للديمقراطيين. وسيكون باول الآن تحت ضغط مقابل من الديمقراطيين لعدم التردّد في اتّخاذ إجراءات تعيد الثقة إلى الأسواق، لأنّهم يدركون أنّه إذا وقعت أزمة اقتصادية فستكون ضربة للسجلّ الاقتصادي للرئيس جو بايدن، الذي لطالما تباهى بنظريّته الاقتصادية المعروفة باسم “بايدنوميكس”، القائمة على تدخّل الدولة في الاقتصاد لتحفيز توجّه الاستثمارات الخاصة نحو القطاعات الاستراتيجية الجديدة، مثل الصناعات المرتبطة بالطاقات النظيفة، وصناعة الرقائق التي تقوم عليها التكنولوجيا المتقدّمة.
تحدّيات تنتظر الاقتصاد الأميركيّ
وعلى أيّ حالٍ، لن يكون الاقتصاد الأميركي في الأشهر المقبلة كما كان في العامين الماضيين أو قبل جائحة كورونا. فبعد كلّ التفاؤل الذي أحاط بطفرة الذكاء الاصطناعي، ثمّة تحدّيات أساسية تنتظر الاقتصاد في مرحلة ما بعد الانتخابات. نموّ السنوات الماضية كان قائماً على إنفاقٍ حكومي بلا حدود. وهذا لم يعد متاحاً، أيّاً يكن ساكن البيت الأبيض، لأنّ عجز الميزانية الفدرالية وصل إلى مستوى مخيف عند 1.7 تريليون دولار العام الماضي، أي ما يعادل 6.3% من حجم الاقتصاد، فيما يقترب الدين الأميركي من 35 تريليون دولار. وبالتالي سيكون الرئيس المقبل مطالباً بضبط الإنفاق، مع ما لذلك من آثار انكماشيّة على النشاط الاقتصادي.
أضف إلى ذلك أنّ الصراع مع الصين ربّما يقود إلى حروب حمائية، خصوصاً في حال فوز ترامب. وستكون لذلك آثار تضخّمية تزيد الموقف تعقيداً.
ولذلك ربّما تكون اضطرابات الأسواق، وإن يكن فيها قدرُ من المبالغة في الذعر، البجعة السوداء التي تنذر بمرحلة ليست يسيرة على الاقتصاد العالمي الذي ما زالت القاطرة الأميركية في مقدّمته.
عبادة اللدن

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.