لغة المرجلة … خطاب المرحلة …

41

بقلم د. باسم عساف

يعيش العالم أجمع، أجواء التصعيد السياسي، ضمن البلد الواحد بين الأحزاب المتنافسة على السلطة والمال، وعلى التناحر لأجل إمتلاك مراكز القوى، والهيمنة عليها للنفوذ الحزبي أو الشخصي، وأيضاً بين البلدان المتجاورة والخلافات على ترسيم الحدود أو التوسع لإحداها على حساب الآخرين، أو في صراعاتٍ لأسبابٍ دينيةٍ وعقائديةٍ وفكريةٍ، قد تطيح بشعوبٍ أو دولٍ لغايةٍ في نفس يعقوب،  أو من خلال التصعيد الحربي، لأطماعٍ في المغانم الإقتصادية أو الصناعية، وما تكتنز  أراضي الغير من ثرواتٍ طبيعيةٍ أو إنتاجيةٍ، تفيد بالإستقواء أو السيطرة على أوسع نطاقٍ جغرافيٍّ أو إستراتيجيٍّ، يفيد الإستغلال والإحتلال.

من هنا تدخل الدول في الصراعات الداخليّة والخارجيّة، أكانت محليّةٍ أو إقليميّةٍ أو دوليّةٍ، وفق أهداف الصراعات ومرادها، وعليه تدخل مستلزمات الصراعات ضمن روزنامة وجدول المواجهات، التي تتطلب المدّ والجزر، والترغيب والترهيب، وكل أساليب الحروب النفسية التي تعتمد على الإشاعات، وهي التي تتضمن الكلمات والمعاني عالية السقف، إما بالتهديد والوعيد، وإما بتصوير الأمور على أن القوة وإبرازها، بمشاهد الإعداد وإمتلاك أقوى الأسلحة، وأحدث الأنظمة الفتاكة، بالصواريخ والأعتدة الحربية،  التي لا تبقِ ولا تزِر،  كما جرى في مصر أيام عبد الناصر، وما جرى أمام الكيان الصهيوني بإستعراض القوة في إظهار صواريخ الظافر والناصر والقاهر، وذلك لتخويف العدو أو الخصم، لأجل أن يخنع ويخضع لشروط القوة، ولإختصار المواجهة الميدانية المكلفة في المال والرجال.

إن ما يجري للدول، يسري على الأحزاب والفئآت المتناحرة على السلطة والمال، أو السيطرة وإمتلاك الأحوال، وربما تأخذ الأساليب نفسها ذات الدور في المواجهات والصراعات، ولكن بمشاهد أخرى، وفق المعطيات التي تستوجبها الظروف، أو ما تتطلبه هذه الصراعات من إستخدام الوسائل، التي توصل هذه الفئآت إلى غايتها بأقل الخسائر وأوفر الأوقات ، ولكن مع أشد المواقف والتصريحات، التي لا تكلف مطلقها سوى المرجَلة والكبرياء، ولو جاء ذلك على صيغة (النمر من ورق)، والكلام المنمَّق عن الإنتصارات الدائمة وقهر الأعداء ببسالة أصحاب الهمم والعزائم التي لا تقهر.

وما يجري للدول وللأحزاب والفئآت، قد يسري على الأفراد والعشائر، في التناحر المحلي والصراع على الأملاك أو الأراضي، أو على توزيع المياه، أو النفوذ المحلي، كزعامات شعبوية وزعامية، على العشيرة أو العائلة أو الحارة والمنطقة والحي والشارع، وكان ذلك يجري بتسابق مع الزمن وكأنه وصل لآخر الدنيا، أو التنافس عل إمتلاك عصا الطاعة، والتقيُّد بالزعامة أو المرجعية السائدة، وما يرافقها أيضاً من إستخدام القوَّة والتنمُّر والمرجلة، لإسكات أيِّ صوتٍ معارضٍ، أو أيّ تحرُّكٍ مضادّ، قد يخطف كل المكتسبات، التي باتت معكوسةً على العادات والتقاليد، وما يجري أيضاً من تنمُّرِ أفرادٍ على الآخرين، أكان في مكان العمل، أو المدارس والجامعات، أو أكان ذلك في الشوارع  والحارات الشعبية، لأجل أن ينبري أحدهم أو مجموعة أفراد، لفرض الهيبة، أو الخوة أو القوة، التي يحصلون من خلالها ما يبتغون، وجميعها تصبُّ في درب السلطة والمال ليس إلا..

كل ذلك مردُّه إلى الفوضى، وعدم تطبيق الأنظمة والقوانين الدولية بالنسبة للدول والمنظمات، وأيضاً المحليَّة بالنسبة إلى الأفراد والجماعات والعشائر، ولا يمكن للفوضى أن تستشري ما لم يكن الفساد هو سببها ومسببها، فهناك العديد من الدول، التي تعتدُّ بالقوَّة والسلاح والأهداف الجهنمية، تراها تتجاوز حدودها وإلتزاماتها بالقوانين الدولية وبالنظام العالمي، الذي يحفظ حق الشعوب بتقرير مصيرها، ويحفظ حريتها بالإختيار للنظام المعتمد، لتطبِّقه في بلدها، والعمل بما ترتضيه الشعوب، وفق بيئتها أو إختيارها لما يصلح للحكم فيها.

هذا ما حفظته ودوَّنته الأمم المتحدة في سن قوانينها، التي تضَمَّنت حفظ حقوق الإنسان والحريات العامة، بدءاً من المعتقد، إلى الإعلام، إلى التعبير، إلى العيش الكريم، جسدياً وصحياً وغذائياً، وفي العلم والعمل، لكل فئآت المجتمعات دون تمييز، وقد بقيت هذه المبادئ والقوانين حبراً على ورق، في ظل تصدُّر وسيادة الفساد والمفسدين على الحكم الدولي أو المحلي وعلى كل الصعد.

كما هو عصر السرعة، وعصر الذكاء الإصطناعي، والتكنولوجيا الحديثة، والوسائل الباهرة المتطورة، التي لم يعُد للإنسان الذي إخترعها، أن يسابقها في التأثير وتحقيق النتائج المميزة عما كان يقصدها، وأفلتت منه زمام الأمور، ليلحق بها ويسارع لإتباعها، بدلاً من التحكُّم بها، لحسن سير العالم بالإتجاه الصحيح، الذي يعطي للبشرية إنسانيتها، بدل أن تكون قطعةً من هذه الآلة، التي إمتلكها المفسِدون للسيطرة على العالم والتحكُّم بالشعوب، وفق أهوائها ونزواتها وغاياتها السوداء، التي تعمي البصيرة قبل البصر.

من هنا قد تبدل الخطاب وتغيرت الأحوال، لترى أن القوي هو الحاكم بقوته، دون مقياس الحق والباطل، ودون إتخاذ الأمر وفق القوانين والشرائع والأنظمة، لأن المُفسدين وعملهم بالفساد، لا يمكنه التقيُّد والإلتزام بها، وإلا لما سُمُّوا بالمفسدين، والإشارة على أعمالهم بالفساد، خاصَّةً في أيام وأجواء الإعتداءآت على حقوق الآخرين، بأي مصيبةٍ قد حلَّت بالمظلومين والمحرومين، وأيضاً خلال الحروب، التي تجري بها كل الأعمال المشينة، والمحرمات دولياً وشرعياً، والتنمُّر محليّاً وإفراديَّاً، خاصةً بإستخدام أساليب التهديد والوعيد، المعتمِد على القوَّة والإستعلاء والإستغلال، الذي يعمُّ الأرض.

لقد بات العصر، هو عصر الكذب والنفاق، بحيث يتم التصريح بكلام معيَّن، والتنفيذ بأعمال أخرى، وبات الأمرُ شبه طبيعيٍ عند المفسدين، غير مبالين بقوله تعالى: (كَبُرَ مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلو )، وهكذا باتت لغة المرجَلة هي خطاب المرحَلة، في ظلِّ السكوت عن إحقاق الحق، مهما كان الظالم متجبراً بقوَّتِه، فالحقُّ أحقُّ أن يُتَّبَع.

د. باسم عساف

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.