دبلوماسيّ يكشف عقل لودريان: هكذا يفكّر وهكذا سيتصرّف
بقلم جان عزيز
«اساس ميديا»
قبل 20 سنة بالتمام والكمال، رفع مستشارا الرئيسين الفرنسي والأميركي، موريس غوردو مونتانيو وكوندوليسا رايس، تقريرهما الشهير المشترك، إلى شيراك ودبليو بوش، الملتئمين في قمّة ذكرى 60 سنة على إنزال النورماندي. وهو الذي مهّد “لتحرير لبنان” من وصاية نظام الأسد بعد أشهر قليلة.
بعد أيام وللمناسبة نفسها، يرفع لودريان تقريره عن زيارته الأخيرة لبيروت. هو تقريرٌ منفرد، لكنّه منسّق على الأرجح مع نظيره الأميركي آموس هوكستين، ويأمل منه الاثنان تحريرَ ما بقي من رئاسةٍ في أشلاء دولةٍ لبقايا وطن.
لكنّ تقرير ثنائي باريس واشنطن لسنة 2024، والمرفوع هذه المرّة إلى قمّة ماكرون – بايدن في النورماندي أيضاً، لا يرسم مشاريع كبرى، كما تقرير ثنائي 2004، ولا يتنطّح لقضايا عظمى، كالتي حلم بها مستشارا الإليزيه والبيت الأبيض آنذاك، ولا يتضمّن أوهاماً قاتلة.
بل هو تقريرٌ وقائعي، لكن مع خارطة طريق واضحة ومُهلٍ محدّدة وتفاصيل تكشف مستقبل هذا “المكان”، بكلّ صراحة.
أسرار عقل الإليزيه
يكشف دبلوماسي مطّلع ومعنيٌّ ومواكبٌ لحركة الموفد الفرنسي والخماسية وحراك الرئاسة، أسرارَ عقل الإليزيه هذه الأيام.
يقول بدايةً إنّه صحيحٌ أن لا أدوات حاسمة وفاصلة بيد باريس لتقرّر وتنجز الحلول في بيروت. لكنّها تملك قراءة شاملة متكاملة، دُبّجت بهدوءٍ في رأس لودريان، ثمّ نوقشت ونُسّقت ووُزّعت أدوارها مع هوكستين في واشنطن، وهي التي أعادت الفرنسي إلى لبنان. إنّها قراءة مكوّنة من نقاط عملية متسلسلة مترابطة بإحكام، وفق المنطق التالي:
1- صحيح أنْ لا فكّ عمليّاً بين مأساة غزة وأزمة لبنان. لكنّ الصحيح أيضاً أنّ ما يحصل هناك مقبلٌ على تطوّر حتميّ، وحتماً لن يكون بلا نهاية. فمذابح رفح باتت تجتاح كلّ عاصمة غربية وكلّ صرحٍ أكاديمي وحتى كلّ مقرٍّ أممي. أكان في نيويورك أو في لاهاي. وليس تفصيلاً أن تتفوّق صورة “كلّ العيون على رفح”، التي اجتاحت الشاشات، على كلّ خوارزميات الذكاء الاصطناعي وآليّات الرقابة والحذف والإسكات. ففي النهاية، “فلسطين” انتصرت. وإن كان موعد إعلان نصرها مؤجّلاً. وأوّلُ الإعلان سيكون عمليّاً شيئاً من وقف نارٍ في غزة. أقلُّ من وقف حرب أو تسوية أو حتى هدنة. لكنْ في لحظة ما قريبة بل وشيكة، سيتمكّن الدم البريء من لجم هذا الثور الصهيوني المتوحّش.
2- فورَ هدوء الفوهات في غزّة، يكفي أن تحسبوا مدّة رحلة الطائرة الخاصة من واشنطن إلى بيروت، لتروا آموس هوكستين، الأخ المجاهد مع “الثنائي الوطني اللبناني” لتحرير بحرنا وبرّنا من احتلال بلده الأوّل وموطنه الأخير، لتروه في الربوع اللبنانية. هذا إن لم يصادف وجوده في الجوار، بما يختصر الوقت والزمن.
3- بوصول هوكستين، يكفي احتساب دقائق زيارته للـ Boss، كما سمّاه آموس، الرئيس برّي في عين التينة، لتسمعوا نبأ الاتفاق الحدودي البرّي الكامل بين “جمهورية لبنان ودولة إسرائيل”. على طريقة اتفاق تشرين 2022 البحريّ.
وذلك لسبب بسيط، وهو أنّ المضمون التقنيّ والعسكري والقانوني لهذا الاتفاق منجزٌ منذ زيارة هوكستين لبيروت في آب الماضي. وهو ما رُفض يومها وأُسقط، في سياقِ مخطّط طهران لضرب ما أعلنه محمد بن سلمان بعد أيام قليلة على زيارة هوكستين اللبنانية من أنّ الاتفاق السعودي الأميركي منجزٌ أيضاً، وضمنه “فلسطين”، مقابل تطبيعٍ عربي مع إسرائيل.
وهو السياق الذي جاءت ضمنه أيضاً عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) نفسها، بحيث ردّت طهران على التفاف واشنطن والرياض عليها في المنطقة، بتفجير هذه كلّ المنطقة، من غزة إلى باكستان، ومن المتوسّط إلى الأحمر وأبعد. وكان رفض اتفاق هوكستين حول الحدود البرّية اللبنانية جزءاً من ذلك الردّ.
ما الذي تغيّر..؟!
لكن ما الذي سيتغيّر الآن ليصبح مشروع الأخ آموس مقبولاً؟
4- هنا يكشف الدبلوماسي القارئ في عقل لودريان وفريقه الفرنسي، عن قطبتين مخفيّتين اثنتين ستسمحان للموفد الأميركي من جهته على الأقلّ، بالتفاؤل والاندفاع إلى إبرام صفقته:
أ- القطبة الأولى لبنانية داخلية، مرتبطة بالترتيبات الأمنيّة التي سيُقرّها اتّفاق الحدود، والتي ستحظى بموافقة “الحزب”. والأهمّ أنّها ستشكّل ضمانته واطمئنانه على سلاحه ووجوده وأفقهما. أي ستقدّم هذه الترتيبات إلى “الحزب” الجواب البديل الذي رفعه منذ 18 شهراً، بأنّه يريد “رئيساً لا يطعن المقاومة في ظهرها”، بحيث سيأخذ “الحزب” جنوباً، ضمانة دولية أقوى من أيّ ضمانة شخصية يمكن لرئيسٍ من كنفه أن يقدّمها لحماية سلاحه.
وهو ما سيفتح نافذة، ودائماً بحسب قراءة الدبلوماسي لعقل لودريان الفرنسي، أمام مرونة من “الحزب” في قضية الاستحقاق الرئاسي.
ب- القطبة الثانية التي يعوّل عليها العقل الفرنسي هي المؤشّرات النووية الإيجابية بين واشنطن وطهران. أبرزها التسريبات الغربية بأنّ واشنطن طلبت من العواصم الأوروبية عدم التشدّد مع طهران في ملفّها العالق أمام وكالة الطاقة الذرّية الدولية. كما التسريب الإيراني المقابل عن عودة شمخاني لتسلّم الملفّ النووي من قبل خامنئي شخصياً. وهو ما يشكّل إشارة إلى مرونة مقابلة من طهران. يكفي التذكير بأنّ شمخاني هو من أبرم اتّفاق بكين مع الرياض في 10 آذار 2023. وهو من قيل إنّه أُبعد وأُقصي لاحقاً لأنّه همس للسعوديين، وعبرهم للأميركيين: “إذهبوا إلى الاتّفاق الآن، على علّاته، ولا تأملوا ترجمته الفورية. ثمّ انتظروا وتريّثوا ولا تملّوا ولا تفقدوا صبركم لأنّ تنفيذه الفعليّ سيكون بعد غياب خامنئي”.
5- انطلاقاً من هاتين القطبتين المخفيّتين في المسار المتخيّل للعلاقة الأميركية الإيرانية، يعتقد لودريان أنّه عندها، أي تكراراً عند وقف نار غزة، ووصول هوكستين إلى بيروت، وإنجاز اتفاق الحدود البرّية، وتسجيل خروق إيجابية لجهة التطمينات والضمانات في ملفّي سلاحَيْ “الحزب” جنوباً والنووي “ملاليّاً”، في تلك اللحظة ستكون الفرصة سانحة لاقتناص رئيس جديد للجمهورية اللبنانية.
6- وهذا ما يسعى لودريان إلى التحضير له ولو على طريقة التمرين الذهني الافتراضي. وقد وضع له “بطاقة معلومات وبحث” كاملة تقول إنّ التطابق المنشود يخلص إلى رئيس هذه ملامحه:
أ- مدعومٌ من فريق مسيحي وازن واحدٍ على الأقلّ.
ب- لا يواجه فيتو من “الثنائي”، وخصوصاً من الحزب.
ج- محتضَنٌ من المجموعة العربية، وتحديداً من القوى الخليجية، التي ستكون الملتزمة شبه الحصرية لملفّ المساعدة الاقتصادية.
د- متبنّىً من المجتمع الدولي والغربي والأميركي بشكل خاصّ، بما يطمئن لجهة آليّة تنفيذ الاتفاقيات الحدودية.
يُنهي الدبلوماسي قراءته عند هذا الحدّ، موجِزاً بأنّه هكذا يفكّر لودريان، أو هكذا يأمل ويرجو للبنان.
صحيح أنّ المهلة التي رآها صالحة للتنفيذ هي نهاية تموز، وهو ما بات شائعاً منذ فترة، على إيقاع الانتخابات الأميركية وغيبوبتها عن قضايا العالم.
لكن ماذا إذا أضعنا فرصة تموز؟ وماذا سيحصل من الآن حتى استنفاد تلك الفرصة؟
سؤالان يقتضيان المزيد من مساحة البحث والكلام والمتابعة… غداً.
جان عزيز