غزّة تشطر تركيا إلى شطرين
بقلم أمين قمورية
«أساس ميديا»
تأخّر رجب طيب إردوغان ستّة أشهر قبل أن يحسم رأيه في قضية غزة. حدث “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر (تشرين الأول) وأحدث معه الارتباك الإردوغانيّ والالتباس. لم يكن مع حليفته المعلنة “حماس” وقضية فلسطين، ولم يكن ضدّ العدوان الإسرائيلي بشكل واضح. الحيرة الممزوجة بالبراغماتية كانت سيّدة الموقف في أنقرة.
على عكس ما كان يحصل في الحروب السابقة في غزة أعوام 2014 و2018 و2021 حين شبّه إردوغان ارتكابات إسرائيل بفظائع هتلر والنازيّين ووصف بنيامين نتنياهو بأنّه “إرهابي”، اكتفى الخطاب التركي خلال عدوان 2023 بإدانة الخسائر في أرواح المدنيين والمساواة بين الطرفين والوقوف على الحياد والتأكيد على الاتّصال مع كلّ المعنيّين للمساعدة في وقف الصراع. وبينما كانت آلة الدمار الإسرائيلية تصول وتجول في القطاع وتحرث الحجر والبشر وتمسح الأخضر واليابس، كانت التسريبات الصحافية تتوالى عن وصول شحنات الخضار من تركيا إلى إسرائيل، فيما الحصار يحرم سكّان غزة من ماء الشرب والدواء وحليب الأطفال.
موقف إردوغان وحزب العدالة والتنمية كان نسخة طبق الأصل عن موقف خصومه في الداخل، لا سيما الحزب الشعبي الجمهوري وأحزاب المعارضة. حيرة إردوغان وارتباكه في غزة وتخلّيه عن شعارات دعم فلسطين كلّفته انتقادات المحافظين في حزبه المناصرين لـ “الإخوان المسلمين”، وكان التخلّي عن دعم غزة أحد الأسباب الرئيسية لاعتكاف هؤلاء عن الاقتراع وخسارة حزب العدالة عدداً من المدن في الانتخابات المحلّية المفصلية الأخيرة، إضافة إلى الأعباء الثقيلة للأزمة الاقتصادية في البلاد.
ما هي خسارات أردوغان؟
الحصيلة التي جمعها إردوغان بعد ستّة أشهر من الانتظار وتذبذب الموقف، تمثّلت في:
ـ خسارة فادحة داخليّاً في الانتخابات المحلّية وبداية تفكّك ائتلافه الحكومي، لا سيما مع إصرار حليفه القومي دولت بهجلي والمحافظين الإسلاميين على موقف أكثر تشدّداً ضدّ إسرائيل.
ـ استمرار التوحّش الإسرائيلي من دون رادع الذي رفع حدّة الاحتجاجات الشعبية في الداخل التركي، لا سيما في أوساط المحافظين.
ـ رفض تل أبيب أيّ دور وساطة لأنقرة في النزاع.
ـ عودة التوتّر إلى العلاقات الأميركية التركية وإرجاء الزيارة المقرّرة لإردوغان بسبب الخلافات الشديدة بين الطرفين.
ـ الخشية التركية من أن يؤدّي تعزيز الوجود العسكري الأميركي في المنطقة إلى تشجيع حلفائهم الأكراد على مواصلة التمرّد وصولاً إلى الانفصال، لاسيما أنّ واشنطن لا تخفي دعمها الواضح لإقامة دولة كردية في شمال شرق سوريا وضمّ ولايات جنوب شرق تركيا ذات الغالبية الكردية إليها، على أن يكون سقوط قطاع غزة والقضاء على “حماس” نقطة البداية في ترتيب نظام إقليمي جديد، وتالياً بات على أنقرة النظر إلى ما يجري في القطاع كقضية مركزية تركيّة.
الهروب إلى فلسطين
هذا على الأرجح ما دفع بإردوغان إلى اتّخاذ خطوات سريعة نحو التشدّد وإعادة صياغة الموقف من فلسطين عموماً، و”حماس” خصوصاً، فاستقبل رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية الشهر الماضي، ووصف الفصيل الفلسطيني بأنّه حركة تحرير وطني لا تختلف في شيء عن القوات الوطنية التركية “قواي ملّية” التي قاومت الاحتلال البريطاني واليوناني والفرنسي لتركيا في حرب الاستقلال، بزعامة مصطفى كمال أتاتورك. وإعلانه في “تجمّع فلسطين” أنّ دولة إسرائيل مجرمة حرب، وأنّ أنقرة ستبدأ باتّخاذ الإجراءات “القانونية” حيال هذا الأمر، وتحميل الولايات المتحدة وأوروبا مسؤولية العدوان على غزة. والأهمّ هو التلويح بالتدخّل العسكري، حيث استخدم العبارة التي يستخدمها عادة قبل انطلاق عمليات الجيش التركي ضدّ التنظيمات الكردية، وهي: “قد نأتي ذات ليلة على حين غِرّة”، مشيراً إلى أنّ القوات التركية قد تظهر في الشرق الأوسط، كما فعلت في ليبيا، وقره باخ في القوقاز.
ترافق الموقف الجديد مع إعلان أنقرة انضمامها إلى دعوى جنوب إفريقيا ضدّ الاحتلال الإسرائيلي أمام محكمة العدل الدولية، وزيادة المساعدات الإنسانية لغزّة، ووقف كلّ أشكال التجارة مع تل أبيب، الأمر الذي من شأنه في حال تطبيقه إحداث أضرار جسيمة بالصناعة والتجارة في دولة الاحتلال.
ضربات اقتصادية تنتظر أنقرة
طبعاً، التصريحات شيء والواقع شيء آخر، ذلك أنّ حكومة العدالة والتنمية تواجه صعوبات لا يمكن تجاوزها، فإسرائيل ليست وحدها والخصومة معها باهظة التكاليف، فهي لا تزال حتى اليوم تحظى بدعم لامحدود من الولايات المتحدة وأوروبا. ومن شأن التموضع التركي الجديد أن يعرّض أنقرة لضربات اقتصادية وماليّة لا طاقة لها على تحمّلها في ظلّ أزمتها الاقتصادية والتضخّم المفرط، إضافة إلى احتمال انعكاس هذا الموقف على العلاقات التركية العربية التي عادت إلى التحسّن، حيث لكلّ دولة سياساتها الخاصة إزاء ما يجري في القطاع وحركة “حماس” نفسها. كذلك فإنّ مكانة تركيا في حلف شمال الأطلسي تحتّم عليها مقتضيات سياسية وعسكرية أساسية لا يمكن التغاضي عنها بسهولة.
الأهمّ من ذلك كلّه أنّ غزة بدأت تشطر تركيا إلى شطرين وتعمّق الخلاف الداخلي مع المعارضة الآخذة في تعزيز مواقعها الشعبية وتهديد المكانة السياسية لحزب العدالة. فبعد إصرار رئيسة الحزب “الجيّد” ميرال أكشنار على وصف حركة “حماس” بالمنظمة الإرهابية، أعلن رئيس بلدية إسطنبول الكبرى أكرم إمام أوغلو، الذي يشكّل أكبر تحدٍّ لزعامة إردوغان، أنّ ما قامت به “حماس” يوم السابع من أكتوبر هو عمل إرهابي، في تصريح تصدّر العناوين الرئيسية للصحف الإسرائيلية.
أشعلت هذه التصريحات عاصفة إعلامية واسعة النطاق داخل تركيا، وقسّمت الأتراك إلى قسمين بين مؤيّد ومعارض. وشارك في الجدل سياسيون وحزبيون من مختلف التوجّهات الأيديولوجية والسياسية. ورأى فيها البعض انطلاقة مبكرة لحملة رئاسية للنجم التركي الصاعد أكرم أوغلو بعد فوزه الكبير الثاني في الانتخابات المحلّية، وتستهدف التقرّب من أوروبا والولايات المتحدة بالتغريد السياسي ضمن سربهم، وتقديم نفسه بأنّه الرجل المنشود للغرب في أوروبا، والرجل القادر على إعادة تصويب البوصلة التركية في الاتّجاه الأطلسيّ.
هذا الموقف ما كان أكرم أوغلو ليطلقه لولا إدراكه أنّ تركيا ليست موحّدة في موقفها من القضية الفلسطينية وإسرائيل، وأنّ إردوغان ليس الناطق الوحيد باسم الأتراك، لا سيما أنّه هو نفسه انتظر أكثر من ستّة أشهر حتى أفصح عن موقف في قضية كان يجاهر بأنّها قضيّته الأولى.
أمين قمورية