7 أسباب وراء تصعيد “بعض” الحزب
بقلم نديم قطيش
«أساس ميديا»
عودة الاحتجاجات العنيفة إلى الشارع، وتصاعدها نحو استهداف قوّات اليونيفيل، جاءا في توقيت مُربك. لطالما استخدم “الحزب”، ومعه حركة أمل، العنف المنظّم لتحقيق أهداف سياسية محدّدة، ومعرَّفة سلفاً عبر خطابات مسؤوليه. وغالباً ما اقترن التصعيد بروزنامة سياسية دقيقة.
أمّا المربك في ما حصل في الأيّام الماضية أنّه جاء بعد إتمام الاستحقاق الرئاسي، وتكليف القاضي نوّاف سلام تشكيل حكومة، ثمّ نجاحه في تشكيل حكومة غير مسبوقة في تركيبتها وكفاءاتها منذ أن هيمن “الحزب” على البلاد، أي أنّ التصعيد حصل بعد إتمام كلّ الاستحقاقات التي كان التصعيد في السابق يواكب التأثير فيها وصياغة مخرجاتها. فهل ما يحصل هو نتاج الفوضى التي يعيشها “الحزب” نتيجة الفراغ القيادي الذي يعانيه؟ والفراغ هنا لا تبدّده قدرة “الحزب” على إيجاد أمين عامّ يحلّ محلّ قائده التاريخي حسن نصرالله، بل يؤكّده انهيار هيكله القيادي بكامله نتيجة الاغتيالات الجراحية الكثيفة، خلال الحرب، وعملية البيجرز الاستثنائية التي عطّلت قدرات آلاف الألياف العصبية لجهازه القيادي.
هل هي الفوضى، التي يؤدّي إليها التغيير في قيادة “الحزب” وفتح الباب أمام انقسامات داخلية وقرارات متهوّرة، أم ثمّة منطق ما يفسّر سلوك البعض في “الحزب”، أو من هم على أطرافه، أو حتى في “الحزب” كلّه؟
أنا لا أقول “البعض فيه” جزافاً، بل لأنّ “الحزب” بات اليوم أحزاباً، نتيجة انهيار القيادة وفقدان الناظم الأعلى لوجهته. “الحزب” أحزاب، بعضها قادة جدّيون يبحثون عن أدوار مستقبلية أو عن إعادة تعريف للمهمّة، وبعضها إيرانيون يبحثون في كيفية حماية بقيّة الاستثمار الاستراتيجي الكبير.
المشهديّات الشارعيّة التي تابعها اللبنانيون، أيّاً كان من يقف وراءها بمعنى القرار الميداني، تأتي انعكاساً للخوف العميق لدى قواعد “الحزب”، وردّة فعل على الخسائر الاستراتيجية التي مُني بها، والإحساس بالحاجة الماسّة إلى الحفاظ على موقع السيطرة وسط نكسات غير مسبوقة. من كانوا في الشارع لا يتحرّكون من موقع قوّة، بل من موقع شبه اليائس الذي يحاول إخفاء ضعفه.
هنا 7 أسباب رئيسية تفسّر سلوك “الحزب” وأنصاره اليوم، وما يعنيه هذا السلوك بالنسبة لمستقبل لبنان:
1- إنكار الهزائم الاستراتيجيّة
يعيش “الحزب” حالاً معقّدة من الإنكار بشأن ثلاث خسائر كبرى. حطّم تدمير حماس وهدْمُ قطاع غزة فوق رؤوس أهله كلَّ ادّعاءات الردع والإسناد والتحرير التي وظّفها “الحزب” لتبرير سلاحه ومشروعه. ثمّ ما لبث أن اشترك “الحزب” مع حماس في جردة الخسائر العملاقة، وأبرزها مقتل زعيمه التاريخي حسن نصرالله وتفكيك كامل بنيته القيادية العسكرية. أمّا الضربة الاستراتيجية الكبرى فكانت سقوط نظام بشار الأسد في سوريا وانتهاء الاتّصال الجغرافي للمحور الذي بُني “بأشفار العيون” منذ عام 1982.
بدلاً من الاعتراف بهذه الهزائم، يضاعف “الحزب”، أو البعض فيه، تصعيده، محاولاً إعطاء انطباع بالقوّة بينما تنهار جبهته الإقليمية.
2- تعبئة القاعدة الشّعبيّة من خلال التّخويف
الأسئلة الكثيرة التي تعجّ في نفوس أنصار “الحزب” عن المكاسب الوهمية للحرب التي أُقحموا فيها، تختصر حجم الإحباط الذي يزنّر يوميّات الطائفة الشيعية. وبإزاء العجز عن تقديم انتصارات ملموسة، يعود “الحزب”، أو البعض فيه، إلى لعبة التخويف والمظلوميّة، مدّعياً أنّ الجميع ضدّه. يريد “الحزب” أن يقول إنّ الوجهة التي ينبغي أن ينصبّ عليها الغضب هي جهة من يصفهم بالمتآمرين عليه، لا “الحزب” نفسه الذي أنهك قاعدته وجمهوره وألحق بهم هزيمة غير مسبوقة في تاريخهم الحديث. فتصعيد الاحتجاجات والهجمات ينطوي على رهان بإبقاء القاعدة الشعبية في حالة تأهّب بما يضمن بقاء “الحزب” في موقع السيطرة على جمهوره، من خلال تصوير نفسه حصناً أخيراً للدفاع عن الشيعة والمقاومة، ويحفظ له بالتالي موقعه في اللعبة الداخلية.
3- ارتفاع حدّة المقاومة الدّاخليّة لمشروع “الحزب”
يدرك “الحزب” أنّه لم يعد القوّة المطلقة في لبنان والمنطقة. فالانكشاف العسكري الذي أظهر حدود قدراته في مواجهة إسرائيل، وتدمير البيئة الجغرافية لقاعدته، وغرقها في أزمة اقتصادية مستفحلة تضاف إلى أزمة عموم اللبنانيين، وفقدانه أهمّ حلفائه الإقليميين مع سقوط الأسد، وحال الشكّ التي تعتري العلاقة بين بيئته وإيران، كلّها عوامل جعلت “الحزب” عاجزاً عن فرض سيطرته كما كان يفعل في السابق. فمن كان يوماً ما لاعباً إقليمياً صاعداً، بات الآن محاصراً ومأزوماً، يحاول يائساً الحفاظ على نفوذه المتآكل مع تزايد المقاومة الداخلية لسطوته، وازدياد الضغوط الدولية عليه، وظهور بدائل سياسية لبنانية تحاول استعادة القرار الوطني من قبضته.
في ظلّ هذه المعطيات، تتحوّل احتجاجاته وتصعيده الميداني من أدوات نفوذ كانتها في ما مضى إلى تعبير عن حالة من العصبيّة واليأس، نتيجة إدراكه أنّ زمن الهيمنة المطلقة بدأ بالتلاشي.
4- التّحضير لجنازة نصرالله
مع اقتراب موعد الجنازة المؤجّلة لحسن نصرالله في 23 شباط، ومواجهة جمهور “الحزب” للحظة الحقيقة المتمثّلة في أنّ ما قبل نصرالله لا يمكن أن يكون كما بعده، تبرز الحاجة إلى شحن الأجواء وتصليب العصب الشعبي لضمان الحشد وتوحيد القاعدة الجماهيرية. الأسئلة الحارّة بشأن المستقبل التي ستُطرح في حضرة الجنازة، لا يغيّبها إلّا حجم من التصعيد الشارعيّ والتشويش النفسيّ والدعائيّ في ظلّ عدم جاهزيّة أيّ فكرة جدّية عمّا يلي مرحلة نصرالله سياسياً واستراتيجيّاً ومعنويّاً ومادّياً.
5- توجيه رسالة تحذير للحكومة اللّبنانيّة
على الرغم من اكتمال النصاب الدستوري في لبنان من خلال تشكيل حكومة وانتخاب رئيس للجمهورية وانطلاق ورشة ترميم النظام السياسي، إلّا أنّ تصعيد “الحزب”، أو بعضه، في الشارع إنّما يهدف إلى تحذير العهد من الذهاب بعيداً في خطوات لا تتماشى مع مصالحه.
يتّضح منذ خطاب القسم إلى كلام رئيس الحكومة بعد صدور مراسيم تأليف حكومته، أنّ المعادلة السياسية الجديدة في لبنان عازمة على المضيّ قدماً في تنفيذ القرار 1701، في كلّ لبنان، وأنّها جادّة في تفكيك دولة “الحزب” العميقة في القضاء والأمن والمرافق الحيوية وغيرها من الأطر التي صنعت اقتدار “الحزب” في السابق.
6- اختبار مدى صبر لبنان والمجتمع الدّوليّ
الهجوم على قوات اليونيفيل، إن كان مخطّطاً له، أو كان دعسة ناقصة من بعض الموتورين، دخل في مقاصّة الاستفزاز والردّ عليه. فمن حيث يريد أو لا يريد، جعل “الحزب” موضوع اليونيفيل مقياساً يقاس به ردّ الفعل الدولي والمحلّي على أفعاله، واختباراً لمدى جدّية المجتمع الدولي وحجم الحماية المتوافرة للبنان. إذا كان الردّ على حادثة اليونيفيل ضعيفاً، فسيشجّع ذلك على رفع مستوى التصعيد، في مواجهة العهد. أمّا إذا كان الردّ حازماً، كما حصل وكما هو مرشّح للحصول مستقبلاً، فإنّ “الحزب” سيتراجع ويستأنف دور الضحيّة.
7- زيادة اعتماد إيران على “الحزب” بعد سقوط الأسد
من غير المستبعد أنّ ما يجري في الشارع اللبناني اليوم ليس تصعيداً داخليّاً عابراً فحسب، بل انعكاس مباشر لإصرار إيران على عدم خسارة آخر جسر استراتيجي لها إلى البحر المتوسط بعد سقوط بشار الأسد. فقد بات مطار بيروت منصّة إيران الوحيدة الباقية لخدمة نفوذها الإقليمي، وهو ما يجعل “الحزب”، أو البعض فيه، في حالة استنفار قصوى لمنع أيّ مساس بهذا النفوذ. إذا صحّ ذلك فإنّ ما شهدته شوارع بيروت لا يعني فقط استعراضاً للقوّة، بل تحذير بأنّ أيّ خطوة سيادية تقوّض النفوذ الإيراني ستقابل بمواجهة شاملة، قد تتجاوز الاحتجاجات إلى سيناريوهات أشدّ خطورة.
في الواقع، لم يعد “الحزب” تلك القوّة الواثقة التي تتحكّم بمسار الأحداث، بل بات كياناً مأزوماً يكافح للتغطية على أسوأ هزائمه وهزائم محوره منذ أربعة عقود. التصعيد في الشارع، والانزلاق نحو استهداف قوّات اليونيفيل، وتبنّي خطاب عدائي متشنّج، كلّها محاولات يائسة لإخفاء التراجع بعدما كانت هذه السلوكات في الماضي من علامات القوّة والسيطرة. واليوم، ولأوّل مرّة منذ عقود، لم يعد “الحزب” هو الطرف الذي يمسك بزمام المبادرة في لبنان، بل أصبح في موقع الدفاع عن نفوذه المتآكل، في مواجهة قوى سياسية وشعبية بدأت تدرك أنّ زمن هيمنته المطلقة بدأ بالانحسار.
نديم قطيش
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.