إسرائيل ولبنان وسراب الشّرق الأوسط الجديد(2)

0

بقلم غسان سلامة “اساس ميديا”

كان بدء إعادة تشكيل المنطقة من خلال التوغّل في لبنان، على وجه الخصوص، لعنة على السياسيين الإسرائيليين. اضطرّ بيغن ووزير دفاعه أرييل شارون إلى الاستقالة بعد الغزو الواسع النطاق لجارهم الشمالي عام 1982، والذي برّر بأسباب مشابهة جداً لما يقوله نتنياهو الآن. هُزم شمعون بيريز في الانتخابات التي تلت حملة “عناقيد الغضب” عام 1996، كما أنّ مغامرة إيهود أولمرت الفاشلة في لبنان عام 2006، إلى جانب قضايا الفساد، أدّت إلى سقوطه.

الشّرق الأوسط الجديد؟

الوعد المتكرّر بـ”شرق أوسط جديد” بعد كلّ من هذه الغزوات لم يرَ النور بطبيعة الحال.

هل يمكن لرئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي أن يحقّق نتائج أفضل؟ هناك أسباب وجيهة للتشكّك في ذلك. أوّلاً، الطامحون إلى الهيمنة يحتاجون إلى الاستعداد لإعادة رسم الحدود وتغيير الأنظمة. يتطلّب ذلك استخداماً للقوّة، وهو ما يجعل مثل هذه المساعي مقتصرة على الدول ذات الموارد العسكرية الكبيرة (وهو ما كان صدّام حسين يعتقد، خطأً، أنّه يمتلكه). وعلى الرغم من أيّ نجاح قد يحقّقه هذا النهج، فإنّه عادة ما يأتي بثمن باهظ من الأرواح والموارد المادّية.

ذهب نتنياهو إلى حدّ التنبّؤ بتغيير النظام في إيران “أسرع بكثير ممّا يعتقد الناس”. لكنّ الاستيلاء على المزيد من الأراضي مع فرض قادة مطيعين على بعض الدول المجاورة يُعدّ مهمّة صعبة للغاية. فمن الصعب على إسرائيل أن تحقّق كلا الهدفين في آن واحد، حيث سيواجه كلّ هدف (وأحياناً كلاهما) معارضة قويّة من لاعبين آخرين.

السبب الثاني للتشكُّك هو أنّ خمول الأنظمة العربية خلال العام الماضي يرتبط إلى حدّ كبير بهويّة أهداف إسرائيل الرئيسية، وهما حركتان مؤيّدتان لإيران وتتبنّيان الإسلام السياسي. بتدميرهما، تضرب إسرائيل ما تعتبره معظم الأنظمة العربية خصمها الأكثر خطورة. لكن إذا تجاوزت إسرائيل هذا التوافق العرضيّ للمصالح، فقد يختفي خمول العرب فجأة.

محاولات نقل الفلسطينيين إلى الدول المجاورة ستُعارض بشدّة باعتبارها مصدراً كبيراً لعدم الاستقرار السياسي. كما أنّ أيّ محاولات إسرائيلية لفرض شكل من أشكال الهيمنة السياسية في بلاد الشام لن تكون مقبولة لمصر أو السعودية أو أيّ من القوى الإقليمية الأخرى الطامحة للهيمنة.

السبب الثالث هو أنّ الاستخدام المفرط للقوّة سيبقي خصوم إسرائيل في حالة من الغضب المستمرّ. يمكن لإسرائيل تحقيق انتصارات تكتيكية، لكنّها لا تستطيع تحويلها إلى هيمنة مستقرّة. مع بقاء القضايا الأساسية غير محلولة، يمكن لحماس (أو أيّ مجموعة خلفها) و”الحزب” إعادة تشكيل أنفسهم في أيّ وقت في السنوات المقبلة، حيث يمكن أن تشكّل الإهانة الأخيرة لهما حافزاً بدلاً من أن تكون رادعاً (وهناك أسباب للاعتقاد بأنّه بينما كانت هذه الجماعات تتعرّض للضرب الشديد، فقد تمكّنت من جذب مجنّدين جدد).

الدول الهشّة في المنطقة، عندما لا تكون متواطئة مع الحركات المناهضة لإسرائيل، بالكاد تستطيع منع عودة ظهور جماعات ذات جذور ثقافية عميقة وما تعتبره قضية مشروعة. يبدو من المحتمل أن تظلّ القضية الفلسطينية تلعب دور العشب المحترق في الكتاب المقدّس، حيث يتمّ إخمادها فقط لتشتعل مجدّداً على الفور.

السبب الرابع هو أنّ الهيمنة الإسرائيلية ستُبنى على قوّة خالصة وعارية ومتغطرسة. جميع جيران إسرائيل حالياً في حالة دفاعية: سوريا فعليّاً محتلّة. العراق لم يستعِد وحدته الوطنية منذ “تحريره”، ولم يتمّ تنظيمه من خلال مؤسّسات قويّة وشفّافة. الأردن يخشى من ضمّ الضفة الغربية وتحوّله إلى دولة فلسطينية بديلة (وهو أمر كان جزءاً من برنامج حزب الليكود الذي ينتمي إليه نتنياهو لعقود، وقد أصبح أخيراً أكثر أهمّية في تل أبيب وربّما أيضاً في مارالاغو).

لبنان والمصير المجهول

أمّا بالنسبة لبلدي، لبنان، فهو مفلس ماليّاً، مشلول سياسياً (دون رئيس، وحكومة ذات صلاحيّات محدودة، وبرلمان خامد)، ومهدّد بعودة الحرب الأهلية. إذا تمّ تأسيس الهيمنة الإسرائيلية، ستكون انتصاراً سهلاً لكن في بيئة غير مستقرّة، محبطة، وغاضبة، يصعب تهدئتها. حتى إذا توقّفت الحرب اليوم، سيحتاج لبنان إلى سنوات للتعافي. قد تجد إسرائيل مصادر للمعلومات في مثل هذه البيئة، لكنّها ستبحث يائسةً عن حلفاء ووكلاء.

ذلك لأنّ نوع الهيمنة الإقليمية التي تحاول إسرائيل بناءها غير “غرامشيّ” تماماً: فهي لا تسعى إلى دمج المهزومين بل على العكس تواصل استبعادهم. إنّ رسالتها التوسّعية المزعومة غير مقبولة حتى لأقلّ الشعوب في المنطقة ميلاً للحروب، ببساطة لأنّها لا يمكن أن تشارك فيها. هم يعتبرون أنفسهم بعيدين تماماً عن المحرقة التي ألحقها الأوروبيون باليهود، ولذلك هم غير مستعدّين لدفع الثمن مرّة أخرى عن أخطاء أوروبا. إنّ دمج الضعفاء في مجال الأقوياء، كما حلّل أنطونيو غرامشي أو، قبل ذلك بكثير، الكبير ابن خلدون (الذي تحدّث عن عملية يوافق فيها الضعفاء على وضع أقلّ شأناً ما داموا جزءاً من شبكة الحاكم، وربّما كان هذا شرطاً أساسياً للهيمنة المستدامة) غير ممكن في هذه الظروف.

وفي هذا الصدد، فإنّ التطوّر الداخلي للدولة هو مرآة. منذ انتصارها في حرب 1967، تغيّرت إسرائيل. ويمكن رؤية ذلك في المجتمع الدرزي، الذي كان مصدراً غير متناسب للمجنّدين في الجيش الإسرائيلي، والذي يشعر الآن بقلق متزايد بشأن إعادة تعريف إسرائيل التي تؤكّد تصنيفهم مواطنين من الدرجة الثانية. وكان ذلك واضحاً أيضاً في الاحتجاجات التي اندلعت طوال ربيع وصيف 2023، عندما تظاهر الإسرائيليون الليبراليون بمئات الآلاف ضدّ “إصلاحات” الحكومة في القضاء التي كانت تهدف إلى تقييد استقلاليّته.

بعبارة أخرى، فإنّ إعادة تشكيل إسرائيل ككيان ديني (كما يتّضح من التأثير المتزايد للمستوطنين في السياسة أو الزيادة الكبيرة للمسلّحين الدينيين في صفوف الضبّاط) تجعلها أكثر انغلاقاً: اليهود الليبراليون وبالطبع المواطنون العرب في الدولة ليسوا مرحبّاً بهم. هذا التحوّل في الكيان الإسرائيلي (ليس مجرد “انزلاقه نحو اليمين”، كما يُقال عادة) يحدث بالتوازي مع المحاولة لتحقيق الهيمنة الإقليمية، وهو مزيج من الصعب أن يطمئن شرائح كبيرة من السكّان الإسرائيليين أو جيران الدولة في المنطقة.

من تُصيبهم الآلهة بالغرور يتخلّصون من العقل. الأمين العامّ للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أُعلن أنّه شخص غير مرغوب فيه فقط لأنّه ذكّر إسرائيل بأنّ القانون الإنساني الدولي ينطبق عليها أيضاً. تمّ وعد إيمانويل ماكرون بالجحيم لأنّه اقترح أن يتمّ تعليق شحنات الأسلحة إلى إسرائيل. تمّت شيطنة المحكمة الجنائية الدولية عندما تحدّثت عن جرائم الحرب التي تُرتكب. حتى الدول التي طبّعت علاقاتها مع إسرائيل تجد نفسها مشوّشة بسبب تعريفها المرن لأمنها وازدرائها لاهتمامات الآخرين بشأن أمنهم.

بالمثل، فإنّ فكرة إسرائيل كحصن للحضارة ضدّ الهمجية هي ادّعاء يجد صدى في الغرب (بالتأكيد في الكونغرس الأميركي)، لكن من الصعب أن تصف حضارات المنطقة القديمة أو تعكس سلوك الجيش الإسرائيلي في غزة بشكل دقيق. الأقرب إلى الواقع هو محاولة إسرائيل أن تكون حصناً عسكرياً متقدّماً للغرب، والكثيرون في الغرب سعداء بذلك الدور. لكنّ الحصن العسكري المتقدّم لا يمكن أن يكون مهيمنًاً إقليمياً، فضلاً عن كونه منارة للحضارة.

في هذه المنطقة المتأزّمة والمضطربة والمكسورة، لا يزال هناك سبيل لتجنّب الأسوأ. يتمثّل ذلك في إعادة إحياء جوهر القضية، القضية التي ظلّت قائمة طوال قرن ونصف من الصراع، القضية التي يريد العديد من الإسرائيليين نسيانها: حقوق الفلسطينيين السياسية الأساسية. غالباً ما تبدو مغامرات إسرائيل الإقليمية وكأنّها هروب من هذه الحقيقة المؤلمة والحاضرة دوماً. ما لم يتمّ الاعتراف بحقّ الفلسطينيين بدولة خاصّة بهم إلى جانب إسرائيل وتنفيذه بشكل مادّي، فلن يتوقّفوا عن أن يكونوا مصدراً للاضطراب (الشرعيّ تماماً)، وهو ما يجعل حياتهم وحياة جيرانهم مستحيلة.

لقد استنتج الساعي إلى الهيمنة أنّه إذا لم يُحقّق استخدام القوّة تهدئة الفلسطينيين ومن يدعم قضيّتهم، سواء كان ذلك بدافع الإخلاص أو المكر، فإنّ العلاج يكمن في تطبيق المزيد من القوّة.

إذا كانت للتاريخ فائدة، فهي أنّه يعلّمنّا أنّ استخدام القوّة لتسوية القضايا السياسية المعقّدة دائماً ما يكون عقيماً وغالباً ما يكون عكسيّاً. على أيّ حال، لا يحمل الخراب الذي تركه القصف الإسرائيلي الحالي للبنان أيّاً من السحر الذي تركه الرومان والبيزنطيون في قريتي: بل هو بدلاً من ذلك علامة على الغرور المتجاوز وغير القابل للتحمّل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.