وقائع إشكاليّة “الحزب” وبكركي!!

80

بقلم جان عزيز

«اساس ميديا»

لم يكنْ موفّقاً البطريرك الراعي في اختيار كلماته، أو في ترتيب سياقها على الأقلّ، في عظته الأحد الماضي.

إذ تحدّث عن تطبيق القرارات الأممية 1559 و1680 و1701، ثمّ أتبع ذكرَه القرار الأخير، بهدف “تحييد الجنوب”. ثمّ بعده مباشرة الإشارة إلى “ألّا يعود لبنان منطلقاً لأعمال إرهابيّة تزعزع أمن المنطقة واستقرارها”.

وهو ما أوحى لدى البعض بأنّ الراعي قصد وصف ما يحصل في الجنوب اليوم بأنّه “أعمال إرهابية”.

وفي المقابل طبعاً وقطعاً، لم يكن موفّقاً إطلاقاً المفتي قبلان في ردّه غير المباشر على الراعي بعد نحو ساعة، خصوصاً بكلام تخوينيّ تحريضيّ تحليليّ – دمويّ، من نوع “جماعة الحائط الصهيوني بكاؤهم على إسرائيل لا على لبنان. ومشكلتهم حجم المشروع الأميركي الذي انخرطوا فيه. والنقطة العمياء بعقل البعض تضعه بمقلب آخر من هذه الحرب”.

بلغ حدّ الاتّهام المبطّن بأنّ “المطلوب من البعض أن يكون شريكاً للبنان بانتصاره وليس بوقاً لإسرائيل بهزيمتها”!!

ثمّ ذهابه أبعد في رسالته إلى الموفد الفاتيكاني: “لا نقبل بتوظيف الكنيسة بمواقف تخدم الإرهاب الصهيوني والإجرام العالمي”!!

فضلاً عن عدم التوفيق أصلاً في مبدأ أن يخصّص رجل دين وقفة أسبوعية ثابتة للردّ على رجل دين من انتماء آخر، إن من عنديّاته أو من عند سواه.

هما موقفان متقابلان إذن. أو بالحدّ الأدنى “تعبيران غير موفّقين”. لكنّهما يكشفان علاقة ملتبسة خطيرة، في مقولتين طاغيتين، وفي مقاربتين أكثر طغياناً، عن السلاح، كما عن مستقبل لبنان الواحد.

مقولة أولى يكشفها هذا السجال المضمر، هي وهمُ “الغطاء” بين الطرفين.

قصّة “الغطاء”هذه بدأت مع تفاهم عون – نصرالله في شباط 2006. يومها حاول خصوم عون المسيحيون استغلال الخطوة لتصفيات شعبية شارعيّة داخلية، فأطلقوا مقولة أنّ الجنرال قدّم “غطاء” لسلاح “الحزب”. لا بل أعطاه صكّ براءة مسبقاً لكلّ ما قام وسيقوم به الأخير من خطوات، في سياق مشروعه البعيد المدى، أو حتى المتوسط والقريب، لإلغاء لبنان الذي يعرفه هؤلاء، وأنّه لولا هذا “الغطاء” العوني لـ”الحزب”، لانتهى الأخير، أو على الأقلّ لسلّم سلاحه أواخر شباط 2006 ربّما!!

بعدها وقعت إشكالية صدام “الحزب” مع الرئيس الأسبق ميشال سليمان. حين أطلق الأخير من الكسليك بالذات مقولة “الثلاثية الخشبية”. وجاء ردّ “الحزب” العنيف عليه، بما أوحى بذعره من أيّ كلام رسمي ضدّ سلاحه.

عندها تلقّف العونيون الفرصة ليتبنّوا هم مقولة “الغطاء”، في محاولةٍ منهم لتسجيل نقطتين اثنتين:

– أوّلاً “التمريك” على “الحزب” بأهميّة تفاهم شباط، كأنّهم يقولون له: هل لمستَ لمس “الخشب” كيف سيكون وضعك مسيحياً ولبنانياً من دوننا ومن دون دعمنا لك وتوفيرنا “الغطاء” الشعبي والإعلامي والرسمي لسلاحك؟!

– ثانياً، للردّ على خصومهم المسيحيين، بالإشارة إلى مدى استراتيجية علاقتهم مع “الحزب”، كأنّهم يقولون لهؤلاء الخصوم: هل لمستم مدى حاجة “الحزب” إلينا وبالتالي ثباتها ونهائيّتها؟! وهل اقتنعتم بأنّ دعمه لنا لن يتوقّف، وبالتالي موازين القوى لمصلحتنا ضدّكم لن تتغيّر عند كلّ استحقاق ومفصل، من كهوف وزارة الطاقة وملحقاتها، إلى موقع الرئاسة الذي بات حصيلة اتفاق بين “الحزب” وبيننا إلى الأبد؟!!

مقولة ثانية، مغلوطة معطوبة أيضاً، يكشفها السجال غير المباشر بين البطريرك والمفتي الجعفري، ألا وهي مقولة “الحماية”.

وهي بدأت بشيء من إحساس بيئة “الحزب” بثقل مقولة “الغطاء” لهم، وسماجتها عليهم. ولم تلبث التطوّرات أن حملت لهم فرصة للردّ عليها: جاءت حرب سوريا، وتحوّلت من ثورة شعبية تحرّرية نقيّة إلى سلسلة حروب دينية “قروسطيّة” متوحّشة. فكان أن صار مسيحيو سوريا بعض ضحاياها. وشاءت صدف الجغرافيا أن يكون وجودُ بعض هؤلاء المسيحيين في المناطق التي احتلّها “الحزب” في سوريا. فارتفعت تدريجياً مقولة “حماية” مسلّحي “الحزب” لهؤلاء، أفراداً وجماعة ومراكز دينية.

حتى بدا كأنّ هناك من استساغ المقولة، فعمل على بلورتها والاستثمار فيها، فانتشرت صورٌ وفيديوهات احترافية لعناصر من “الحزب” يؤدّون تحيّة لمقام ديني مسيحي هنا، أو يرافقون راهبات سوريّات هناك.

وتولّى بعض أسوأ نماذج الذمّية السياسية في سوريا ولبنان تضخيم هذه الظاهرة، حتى صارت ردّاً أيديولوجياً غير مباشر من بيئة “الحزب” على بيئة “التيار” خصوصاً والمسيحيين عموماً: أنتم تدّعون أنّكم وفّرتم الغطاء لسلاحنا، بل هو سلاحنا ما وفّر “الحماية” لوجودكم!!

قد تكون الإيجابية الوحيدة من السجال مداورةً بين البطريرك والمفتي الجعفري اليوم أنّه جاء ليعلنَ سقوط المقولتين الخاطئتين والمضلّلتين. ففي كلام المفتي إيحاء مباشر بأنّنا “لا نحتاج غطاءكم لسلاحنا”! وفي كلام البطريرك حزمٌ مقابل أنّنا “لا نريد حمايتكم لنا ولدولتنا”!

هنا تكمن إشكالية عميقة وخطيرة فعلاً عبر انطباعات خاطئة بشيء من سلوكيّات انتهازية سابقة، أو تآمريّة مقبلة.

أن يعتقد جمهور “مسيحي” ما أنّ “الحزب” وقف مع عون الأكثر تمثيلاً للمسيحيين، يوم كان “الحزب” مأزوماً في ساحات وجوده وحركته كافّة، وتحديداً بدءاً من شباط 2005 وبعد اغتيال رفيق الحريري: مأزوم إسلامياً في لبنان، بصراع شيعي سنّي كبير، ومأزوم لبنانياً بتحوّله أقلّية واضحة بوجه 14 آذار التي كانت تضمّ عون، والتي استمرّت أكثرية بلا عون، بدليل نتائج انتخابات 2009، ومأزوم عربياً ودولياً في السياق نفسه، وأنّه حين انتهى “ضعف” الحزب سنّياً ولبنانياً وعربياً ودولياً، لم يعد بحاجة إلى “تفاهم” عون ولا إلى “غطاء” تيّاره له!!

في مقابل خطورة انطباع شيعي بأنّه يوم كان خطر “داعش” على حدود القاع الكاثوليكية، ويوم كان نظام الأسد مهدّداً بالسقوط، كانت “حماية الحزب” لا تستفزّ المسيحيين، من حلفاء “الحزب” قبل خصومه. فحمل جبران باسيل قذيفة “الحزب” هديّةً في قلب مدينة جبيل، وتحمَّل حتى عقوبات واشنطن كُرمى للسيّد، بحسب تبريره. حتى بكركي نفسها قالت يومها عن “الحزب” وسلاحه ومقاومته مدائح وإطراءات!

فيما لمّا بدا أنّ هناك همساً عن مشروع توافق أميركي روسي سعودي سوري يمكن أن يُعيد مظلّة بشار الأسد على دمشق وبيروت، صار فجأة سلاح “الحزب” عبئاً على لبنان. وتذكّرَ باسيل بغتةً أنّ بشار هو من قال له هاتفياً ذات اتّصال إنّه “لو بقي ماروني واحد في لبنان، فهو يريده رئيساً للجمهورية”!!

وإذا كانت هذه حال الحليف والصديق، فما بالك بحال الخصم من جعجع حتى أقصى مسيحيّي لبنان؟!

هي علامات أزمة فعليّة عميقة وخطيرة جداً، وليس السبب أنّها معضلة عدم ثقة متبادلة بين فريقين وربّما جماعتين وحسب. بل إنّها تعمية عن حقيقة الأزمة الراهنة، وحرف للأنظار عن جوهر النزاع الذي يعيشه لبنان اليوم.

فيما السؤالان المفروض طرحهما، ردّاً على تلك التعميات هما التاليان:

1- هل مشكلة “الحزب” اليوم في لبنان هي مع بكركي ومع المسيحيين، بما له من خصوم بينهم أو أصدقاء؟

2- وفي المقابل، هل مشكلة بكركي والمسيحيين في لبنان اليوم هي مع “مقاومة” الحزب فعلاً؟

جان عزيز

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.