هل دقّت ساعة القيامة الإقليميّة؟

46

بقلم د.سمير صالحة

«اساس ميديا»

بين المحور الإيراني من جهة، ومحور أميركا وإسرائيل من جهة أخرى، حرب شعواء قد تشعل المزيد من الجبهات. فهل يكون الحلّ بولادة تكتّل إقليميّ ثالث، يشكّل فرصة لبعض دول المنطقة للدفاع عن مصالح شعوبها، من دون الانخراط في جنون الحروب الآتية؟

يطرح البعض تساؤلات صعبة حول مسار التصعيد الأمنيّ المتزايد في الإقليم بدلاً من الحديث عن سبل التهدئة ووقف إراقة الدماء على أكثر من جبهة. الأمين العامّ للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش هو بين الذين يتوقّفون عند هذا السيناريو السوداويّ بقوله: “سرعة الأزمات الإقليمية تتقدّم بفارق كبير على سرعة جهود التهدئة والبحث عن حلول لها”.  تشهد المنطقة اليوم أيضاً مواجهة “حلم أرما غيدون” و”ريتوريك الإمبراطورية الإيرانية” بغطاء عقائدي ديني عرقي اجتماعي، تحرّكه قواعد اشتباك إقليمي جديدة من أجل السيطرة على الثروات والممرّات التجارية والتحكّم بالقرار السياسي. وبات واضحاً أنّ التكنولوجيا الحديثة عاملاً حاسماً في شكل المواجهات المرتقبة. يدعو إسماعيل حقّي بكين، رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية التركية الأسبق، القيادات في البلاد إلى اتّخاذ التدابير العاجلة في التعامل مع مخاطر وتهديدات الحروب الإلكترونية المحدقة. يتحدّث وهو يعقّب على التصعيد الإسرائيلي الإيراني الإقليمي الأخير الذي دفع الحزب قبل أيام ثمناً باهظاً فيه… واحتمال أن تشهد الصراعات بعد الآن أساليب وتقنيّات جديدة مغايرة تنهي المعركة قبل أن تندلع كما يقول.

من يريد الحرب المفتوحة؟

مقولة أنّ الرأسمالية تعتاش على الأزمات والإمبريالية تعتاش على الحروب والويلات وأنّ الاشتراكية استسلمت لفتوحات الليبرالية في العقدين الأخيرين، تراجعت لمصلحة تداخل الكثير من المصطلحات والتوصيفات ووضعها في طنجرة ضغط إقليمي قابلة للانفجار في كلّ لحظة. “الجهود” الإسرائيلية الإيرانية التي تبذل بهذا الاتّجاه لا يمكن تجاهلها أو الاستخفاف بها. الهدف هو جرّ المنطقة إلى حرب إقليمية مفتوحة برغبة وتشجيع البلدين. كلّ طرف فاعل ومؤثّر يحاول أن يبني حساباته وشبكة علاقاته وتموضعه الجديد على هذا الأساس. لكنّ المسألة تتطلّب الخروج من المواجهات وتجاوز القطوع بأقلّ الخسائر والأضرار.

وقف حرب غزّة ما عاد كافياً

يتمسّك البعض بالأهميّة القصوى لمواصلة جهود إنجاح الوساطات في قطاع غزة لأنّها هي مفتاح تجنّب الانزلاق الإقليمي نحو الحرب الشاملة واحتواء التصعيد على الجبهات الأخرى. لكنّ حسابات إيران وحليفها الحزب في لبنان تذهب بعد الآن باتّجاه آخر: يقود التصعيد الحاصل على الجبهة اللبنانية الإسرائيلية ورغبة حلفاء إيران في العراق واليمن في دخول المعركة، إلى قناعة بأنّ التهدئة ووقف إطلاق النار في قطاع غزة لن يكونا كافيين لإخماد النار المشتعلة في المنطقة. حسم الوضع على جبهة لبنان هو الذي سيقود إلى التهدئة والتفاهمات في قطاع غزة.

تمسّك طهران بالمقابل بورقة غزة على هذا النحو سببه أبعد من الوقوف إلى جانب حماس: التلويح بورقة جنوب لبنان والاستعداد لمقايضتها بتقاسم نفوذ إقليمي جديد على حساب العديد من دول المنطقة هما بين الأهداف. وإلّا فما الذي سيدفعها للقبول بالخروج من العرس بلا قرص، خصوصاً بعدما اخترقت إسرائيل حدودها الأمنيّة في الداخل الإيراني وخارجه أكثر من مرّة؟ وما الذي سيدفعها إلى تجاهل تفجير آلاف أجهزة “البيجر” و”الووكي توكي” التي اشترتها لعناصر الحزب؟

فرصة لتوازنات جديدة في الإقليم

هناك من يرى أنّ ما يجري اليوم فرصة لخلط كل الأوراق، وترتيب معادلات وتوازنات سياسية وأمنيّة واقتصادية جديدة تكون طهران وتل أبيب أوّل المستفيدين فيها. الهدف هو إقناع البعض وعلى رأسهم واشنطن بذلك.

يقول الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتزوغ، إنّ بلاده لا تسعى إلى الدخول في حرب مع لبنان. ما الذي يعنيه وهو يعرف أفضل من غيره أنّ من يحاربه هناك ليس الجيش اللبناني ولا كلّ الشعب اللبناني بل إيران والمحسوبون عليها في لبنان؟

يتحدّث حسن نصر الله بالمقابل باللغة والأسلوب الإيرانيَّين: “هي مجرّد جولة في سياق حرب مفتوحة”. لا يتحدّث عن جبهة جنوب لبنان وحدها، بل يشرك كلّ جبهات المنطقة التي تستطيع إيران التأثير فيها، مثل سوريا والعراق واليمن، في سيناريوهات التصعيد الإقليمي المحتمل مع إسرائيل.

حتى لو استوعبت إيران وأعوانها ما جرى، فلا ضمانات أنّها ستكون قادرة على استيعاب ما سيجري. ولن تكفيها مظلّة “الصبر الاستراتيجي” التي اخترقتها تل أبيب بشكل استفزازي أكثر من مرّة. عليها أن تبحث عن وسائل أخرى غير ما تقول، على أن تكون أكثر تأثيراً لإقناع قواعدها والمراهنين عليها في الإقليم بعد كلّ هذا التحدّي الإسرائيلي الأميركي، وأن تخرج ما في جعبتها من مفاجآت إذا ما كانت فعلاً تبحث عن مواجهة تحرّشات نتنياهو. فما هو السلاح الذي ستحرّكه لمواجهة التكنولوجيا الحربية الإسرائيلية والدعم الغربي المقدّم لتل أبيب عند اتّساع رقعة المعارك أكثر من ذلك؟ أم تعوّل على إقحام الجميع في المعركة وتحويلها إلى انفجار إقليمي أوسع على طريقة “اشتدّي يا أزمة تنفرجي”؟

سيناريو إشعال جبهات جديدة يتقدّم

أصاب نصر الله بقوله إنّ وقف العدوان على غزة هو المَدخَل لكلّ الحلول. لكنّ حليفه الإيراني يحتاج إلى ما هو أكثر من ذلك، خصوصاً بعد الهجمات الإسرائيلية المتلاحقة في عمق مناطق نفوذه في سوريا ولبنان. على قيادات الحزب أن تضع في حساباتها بعد الآن احتمال أن توسّع تل أبيب رقعة المعارك لتصل إلى قلب العراق واليمن، خصوصاً بعدما استهدفت الميليشيات المحسوبة على إيران إسرائيل من هناك، وأن لا تأخذ كثيراً بما يقوله عضو مجلس تشخيص مصلحة النظام محسن رضائي الذي قال إنّ خامنئي لا يريد الحرب مع إسرائيل في هذه الظروف، لأنّ القرار قد لا يعود لطهران هذه المرّة.

سيناريو توقّع الأصعب والأخطر واقتراب موعد إشعال المزيد من الجبهات هو الذي يتقدّم بفارق شاسع على سيناريو ضبط النفس.

تحريك ورقة النازح هنا مقابل النازح هناك هو الذي سيتقدّم ويسود أيضاً على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية. لكنّ هناك سيناريوهات ما بعد ذلك، سياسياً وأمنيّاً واجتماعياً. ومن ينجح في امتصاص الصدمة وارتداداتها قبل الآخر قد يكون هو الطرف الفائز.

قوى الإقليم لا تريد حلولاً دائمة

حمّلت العديد من العواصم الإقليمية تل أبيب مسؤولية ما يجري وحؤولها دون تحريك أوراق وفرص السلام في المنطقة. العقبة الأخرى هي استفزازات إيران وتمسّكها بحفر الخنادق الإقليمية لأخذ ما تريد. مشكلة الإقليم أيضاً هي أنّ غالبية القوى الدولية الفاعلة تعوّل على حلول جزئية مبتورة تساهم في امتصاص أجواء التوتّر. فهي لا مصلحة لها في سلم إقليمي دائم ينهي أجواء التوتّر والتهديدات بالتفجير.

ما يجري اليوم يتعلّق بما جرى في 7 أكتوبر المنصرم في قطاع غزة. لكنّه يتعلّق أيضاً بقرار ردّ إسرائيل وأميركا على محاولات إضعاف موقفهما واستهداف مصالحهما في الإقليم. وبقدر ما تبحث طهران عن فرص توسيع رقعة المعارك، هناك استعداد أميركي إسرائيلي لتوريط المنطقة في حرب إقليمية مفتوحة وشاملة تعيد خلط الأوراق وترتيب أولويّات تقاسم النفوذ والمصالح.

كثر هم من لا يريدون السقوط في هذه المصيدة الإسرائيلية والإيرانية. انتقاد الممارسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلّة ومواجهة ما تفعله في المنطقة لا يمكن أن يكون ثمنهما تجاهل ما تفعله طهران أو الوقوف بجانبها وهي تعرّض كلّ التوازنات والحسابات الإقليمية للخطر إذا لم تصل إلى ما تريد.

العديد من دول المنطقة قلق حيال خياراته وما سيفعله أمام هذا السيناريو. هذه الدول قد لا تلتحق بالخنادق الإسرائيلية أو الإيرانية التي سيحاول البعض جرّها إليها لأنّه لا مصلحة لها في تأجيج الصراع، لكنّها تعرف أن فرص جهود التهدئة والذهاب إلى طاولة الحوار ستحمل معها جلوس الطرفين الإسرائيلي والإيراني في صدر طاولة التفاهمات الإقليمية الجديدة.

هكذا تضاربت مصالح العديد من دول المنطقة مع إيران وإسرائيل أكثر من مرّة. حاولت هذه الدول تبنّي سياسة براغماتية معهما في السنوات الأخيرة. لكنّ ممارساتهما وتمسّكهما بتفجير الوضع الإقليمي برمّته إذا لم يصلا إلى ما يريدان، هما اللذان يقلقان هذه الدول اليوم ويدفعانها للتوحّد والاصطفاف في مواجهة تصرّف وسلوك القيادات السياسية في البلدين.

الأنظار مشدودة نحو ولادة تكتّل إقليمي ثالث يكون بين الوسائل والأدوات الباقية للبعض للدفاع عن مصالح شعوبه.

د.سمير صالحة

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.