هل تنأى أوروبا بنفسها عن عقدة محرقة غزّة؟

26

بقلم أمين قمورية

«أساس ميديا»

بعد 412 يوماً من الإمعان في إشعال المحرقة في فلسطين ولبنان، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أمراً باعتقال رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو ووزير جيشه المخلوع يوآف غالانت بتهمة إشرافهما على ارتكاب هجمات على السكّان المدنيين ترتقي إلى جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية. هذا القرار حوّل نتنياهو بين ليلة وضحاها من “ملك إسرائيل” إلى مطارَد وملاحَق من العدالة الدولية ومتّهم بأبشع الجرائم.

إنّه زلزال سياسي هزّ أركان الدولة العبرية برمّتها ومن شأنه أن يترك تداعيات خطيرة على العلاقات الإسرائيلية الدولية، ولا سيّما تجاه الدول الأوروبية الموقّعة على إعلان روما الخاصّ بالمحكمة والملزمة تنفيذ قرار التوقيف والملاحقة… فإلى أين ستقود هذه الخطوة العلاقات الإسرائيلية الأوروبية؟

لم يُخفِ مفوّض الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل فرحته وابتسامته بصدور قرار المحكمة الجنائية بحقّ نتنياهو وغالانت. وقال في مؤتمر صحافي إنّ مذكّرة التوقيف “ليست قراراً سياسياً، إنّها قرارات محكمة ويجب احترامها وتنفيذها”.

أوروبا “تنقلب” على نتنياهو

تبعاً لذلك، تعهّدت دول أوروبية كثيرة، بما فيها أعضاء حلف شمال الأطلسي “الناتو”، بتأييد حكم الجنائية الدولية ودافعت عن استقلالها:

  • فقد أعلنت فرنسا دعمها لاستقلالية المحكمة، وأكّدت اعتبارها “جزءاً أساسياً من النظام الدولي لضمان العدالة الدولية”.
  • وهو ما فعلته إسبانيا.
  • وإيرلندا.
  • وبلجيكا.
  • وهولندا التي ألغى وزير خارجيّتها زيارة لإسرائيل.
  • وبريطانيا التي قال رئيس وزرائها كير ستارمر إنّها “تحترم استقلالية المحكمة”.
  • وإيطاليا، التي قال وزير خارجيّتها إنّها تدعم المحكمة.
  • كذلك صدرت تصريحات مشابهة من النروج.
  • والسويد.
  • ودول أخرى.

بغضّ النظر عن التزام الدول الأوروبية منطق العدالة الدولية وعدم قدرتها على تجاهل قرارات هيئة حقوقية دولية كان لها الدور الأساسي في قيامها، فإنّ تصريحات قادة هذه الدول ومسارعتهم إلى تبنّي حيثيات الحكم واستعداد حكوماتهم لتنفيذ الاعتقال حال وصول المتّهمَين إلى أراضيهم… عبّرت عن حجم الامتعاض من نتنياهو وحكومته، ومن غطرسته وتوحّشه ضدّ الشعبين الفلسطيني واللبناني، وما تنطوي عليه أفعاله وأقواله من صلف وغرور ووحشية.

المجر “تخرق” الإجماع الأوروبيّ

لكن كالعادة لم تكن الدول الأوروبية على كلمة واحدة. إذ سرعان ما خرق رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان الإجماع الأوروبي بإعلانه أنّ أمر الاعتقال يتعارض مع القانون المجري. وبعث برسالة دعم لنتنياهو الذي ردّ عليها بأحسن منها. وكان أوربان نفسه فعل الشيء نفسه حين أعلن دعمه لصديقه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عندما أصدرت المحكمة ذاتها مذكّرة توقيف بحقّه بتهمة ارتكاب جرائم حرب متعلّقة بـ”نقل أطفال بصورة غير قانونية” من أوكرانيا.

أعلن أوربان، الذي تتولّى بلاده حاليّاً الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، في حزيران الماضي، تشكيل تحالف للأحزاب اليمينية المتطرّفة في أوروبا يهدف إلى “جعل أوروبا عظيمة مجدّداً”، في استعادة لشعار تيّار “ماغا” (لنعِد أميركا عظيمة مجدّداً) الذي أطلقه الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب. ويشترك الرجلان ومعهما الأحزاب اليمينية المتطرّفة في تبنّي خطاب عنصريّ وقوميّ متطرّف ضدّ المهاجرين والأقلّيات.

في مقابل موقف المسؤول المجري، يدرك قادة الدول الأوروبية الأخرى، حتى أكثرها انحيازاً لإسرائيل مثل ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، أنّ رفض قرار المحكمة الدولية وانتقادها سيعنيان بداية نهاية النظام العالمي الحالي لمصلحة نظام آخر لا مكانة أساسية لها فيه. لكنّها تخشى أيضاً أنّ القبول بالقرار قد يضعها، بسبب ظروف تشكيلها أو النفوذ الهائل للّوبيات اليهودية فيها واستخدام سلاح “معاداة السامية”، في مأزق قانوني وسياسي كبير.

بداية صراع “عالميّ” جديد

عليه، فإنّ القرار قد يكون فاتحة لصراع كبير على معنى العالم، والنظام الدولي الذي قام بعد الحرب العالمية الثانية. وستكون الهيئات السياسية الدولية، مثل الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، والمحكمة الجنائية الدولية، ومحكمة العدل الدولية، في قلب هذا الصراع الذي سيحدّد إن كان العالم قادراً على حماية هذه المنظومات أم ستعمد القوّة الغاشمة لتحالف ترامب ـ نتنياهو والأحزاب الفاشية والمتطرّفة الصاعدة إلى تفكيكها والتخلّص منها.

من شأن هذا القرار، الذي يكشف زيف الوجه الديمقراطي الذي تحاول إسرائيل تسويقه للعالم، أن يمدَّ حركات الاحتجاج العالمية ضدّ جرائم إسرائيل بسند قانوني فاعل تجسِّده هيئة دولية قانونية تحظى بالصدقية ولا يمكن تجاهلُها، علاوة على أنّه سيوسّع عزلة إسرائيل، وحملات مقاطعتها، في الأوساط العلمية والثقافية وغيرها، وسيشجّع على رفع دعاوى ضدّ المسؤولين والضبّاط الإسرائيليين أمام محاكم أوروبية محلّية، تسمح قوانينها بمحاسبة مجرمي الحرب، مثل بريطانيا وبلجيكا وهولندا، ضمن سلطة الولاية القضائية، أو القضاء الكوني الذي سبق أن لاحق مسؤولين إسرائيليين وغيرهم بمقتضى دعاوى ضدّهم في هذه الدول.

يمكن أن يقدّم قرار الجنائية أيضاً دعماً لمحكمة العدل الدولية التي ما زالت تنظر في القضية التي رفعتها جنوب إفريقيا، وتتّهم فيها إسرائيل بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية في قطاع غزّة لأنّه يعزّز قضية تعمّد الإبادة التي ترتكبها إسرائيل، بالنظر إلى أنّ القرار صادر عن محكمة جنائية دولية، يمكن الاستناد إلى أدلّتها وقراراتها.

النّخبة الأوروبيّة.. وعودة “المشكلة اليهوديّة”

هذه الاحتمالات مجتمعة من شأنها أيضاً أن تفضي إلى خطّ جديد للتوتّر بين أوروبا وإسرائيل ظهرت معالمه في تظاهرات الاحتجاج الأخيرة في هولندا وفرنسا. وقبل ذلك في الاحتجاجات الصاخبة التي شهدتها المدن الأوروبية والجامعات المرموقة ضدّ العدوان على غزة، وأظهرت أنّ طيفاً من النخب الأوروبية، ولو أنّه غير مؤثّر في صناعة القرار الاستراتيجي، بات يشعر بحرجٍ شديدٍ في القفز على أدلّة دامغة تدين الإرهاب الإسرائيلي. وبالفعل باتت شرائح اجتماعية واسعة في أوروبا تنظر بغضب إلى خضوع حكومات دولها لابتزاز إسرائيل، والتغاضي عن جرائمها بحقّ الفلسطينيين واللبنانيين.

تدرك الحكومات الأوروبية أنّ تحوُّلَ بوصلة الرأي العامّ في شأن الصراع سيعيد ”المشكلة اليهودية” إلى مجتمعاتها، لكن ضمن سياق مغاير تماماً لما كان عليه الأمر قبل المحرقة اليهودية. وهو ما يثير مخاوفها، لا سيّما أنّ عشرات الآلاف من ضحايا محرقة غزة سيبقون خنجراً في خاصرة الضمير الأوروبي عقوداً.

مع الشروخ العميقة التي يُتوقّع أن تخلّفها محرقةُ غزّة في الضمير العالمي، سيجد صنّاع السياسة في أوروبا أنفسهم في مواجهة صعبة مع دافعي الضرائب والمكلّفين الذين تتدفّق أموالهم نحو آلة الحرب والقتل الإسرائيلية ونحو الدعم السياسي والإعلامي لدولة الاحتلال وتبيّض سجلّها الإجرامي الأسود. ربّما بداية التحوّل كانت في توجيه القادة الأوروبيين الانتقادات الشديدة لإسرائيل ومحاولة منعها من مواصلة عدوانها على غزة ولبنان، والدعوات إلى وقفٍ كاملٍ لمبيعات الأسلحة إلى إسرائيل والنظر في فرض عقوبات على وزراء إسرائيليين من اليمين المتطرّف، ومراجعة اتفاقية الشراكة بين إسرائيل والاتحاد. وزاد الطين بلّة استهداف الوحدات الأوروبية العاملة في إطار قوّة “اليونيفيل” في جنوب لبنان في محاولة لترحيلها.

قبل قرار المحكمة حذّرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” من أنّ أوروبا قد تتحوّل إلى “أراضٍ عربية معادية للإسرائيليين”. بعد القرار بلغ الغضب الإسرائيلي ذروته على الأوروبيين وبلغ حدّ رفض انضمام فرنسا إلى لجنة المراقبة لتطبيق القرار الدولي الرقم 1701.

في 7 أكتوبر (تشرين الأوّل 2023)، وقفت أوروبا بحكوماتها ونخبها صفّاً واحداً خلف إسرائيل.

بعد سنة ونيّف من التوحّش الإسرائيلي غير المسبوق والمثبت والمدان دوليّاً، هل آن الأوان اليوم لأوروبا أن تتفادى السقوط في عقدة تاريخية جديدة اسمها محرقة غزة؟

أمين قمورية

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.