نبيه برّي ولحظة موسى الصّدر

85

 

بقلم نديم قطيش «أساس ميديا»

لا أحد يريد أن يكون مكان الرئيس نبيه برّي هذه الأيّام. للرجل الكثير ممّا له، وأكثر ممّا عليه.

بين ما له أنّ همّه الجنوبي، تمحور حول الإعمار والطرق والجسور والمدارس والبنية التحتية من مياه وكهرباء. لا تنتقص من ذلك سياقات  رعاية الأزلام وتوظيف المال العامّ لإدارة النفوذ. حصل الأمران بالتوازي.

ازدهر الجنوب كثيراً وتمتّع بالكثير ممّا ظلّ مفقوداً في نواحٍ أخرى من البلاد، الواسعة في مآسيها، والضيّقة في جغرافيتها.

في دراما الجنوب اليوم يواجه نبيه برّي لحظته الصدريّة، نسبة للإمام موسى الصدر. كأنّ عام 1978 مجدّداً يلوح في أفق المصير الشيعي الجنوبي تحديداً.

عام 1978… وأحداثه الدراميّة

رسمت أحداث هذا العام مصير الجنوب وأهله بدءاً بالاجتياح الإسرائيلي في آذار مروراً باختفاء الصدر في آب وصولاً إلى انسحاب إسرائيل في أيار من عام 2000. حاول الصدر جاهداً حماية الجنوب، والدفاع عن رفاهية أهله وقاعدته السياسية. تمحورت حساباته حول أنّ أمن الجنوب واستقراره، وتحييده عن تبعات فوضى السلاح الفلسطيني، تشكّل ركائز حاسمة لدوره ومشروعه ومستقبله. كان يدرك أنّ الغزو الإسرائيلي المحتمل هو التحدّي الأبرز لتطلّعاته. لا سيما في ضوء حدود القدرات العسكرية الفلسطينية أمام القوّة العسكرية الإسرائيلية الساحقة.

تكلّم الصدر حينها، باللسان الذي يتكلّم به نبيه برّي اليوم. دعوات حماسية إلى الحوار وجهود لا تهدأ تحت عناوين “تعزيز جبهة وطنية متماسكة ضدّ العدوان الإسرائيلي”. من دون أن ينجح في إيقاف الاجتياح.

لم يكن فشله يومها نتيجة ضعف في القيادة. بل ترجمة لواقع من الديناميكيّات الجيوسياسية القاسية التي حاصرته في مرمى النزاعات الإقليمية والمصالح الدولية. وبدّدت كلّ مساعيه إلى الاستقلال بمصير الجنوب عن مصائر الشرق الأوسط الأوسع.

عاصفة قاتلة… تجمّعت أمام الصّدر

تجمّعت ذلك العام في وجه الصدر نُذُر عاصفة قاتلة. توزّعت على الآتي:

– الغزو الإسرائيلي للبنان حتى نهر الليطاني بهدف إخراج الفدائيين الفلسطينيين من المنطقة.

– وتدفّق الأسلحة السوفيتية إلى الفصائل الإقليمية مع تحوّل الجنوب إلى ساحة من ساحات الحرب الباردة.

– أضيفت إلى ذلك اتفاقية كامب ديفيد التي ستوقّع بعد اختفائه بـ17 يوماً.

– فيما كانت الأشهر التي سبقت التوقيع قد باتت تشير إلى أنّ الاتفاقية شبه محسومة. مغيّرةً بذلك حسابات حافظ الأسد وياسر عرفات، على نحو مناقض لمشروع موسى الصدر.

لم يعد مسعى الصدر إلى إرسال الجيش إلى الجنوب منطقيّاً في ظلّ سعي الأسد إلى الإمساك بورقة المقاومة كردّ على موقف مصر التي ذهبت منفردة إلى الصلح مع إسرائيل. ضاقت المسافة بين الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات والأسد. واتّسعت بين الأخير والإمام الصدر الذي صار غريباً عن تحوّلات المنطقة واتّجاهاتها. في المقلب الآخر، لم تستوعب الإمامَ قوى اليمين اللبناني. نتيجة توجّسها من صِلاته بالثورة الإيرانية ضدّ نظام الشاه.

خسر الصدر يميناً وخسر يساراً. دمّر الاجتياح بيئته في الجنوب. وأخرجته معادلات الإقليم من دائرة الجدوى السياسية، لا سيما لعرفات والأسد. ولم يحسن اللعب على تناقضات علاقاته بالشاه وعلاقته بالثوره المندلعة ضدّه. إلى أن انتهى مختفياً في ليبيا، فاتحاً الجنوب على لعبة تغيير طبيعته الاجتماعية والمذهبية والوطنية عبر الحرس الثوري الإيراني.

1978 – 2024: تشابه اللحظات

يقف نبيه برّي على الأرض ذاتها اليوم. الأخبار الوافدة من الجنوب تشير إلى أنّ إسرائيل تدمّر بشكل ممنهج كلّ ما أوتيت من بنية تحتية تجعل الجنوب صالحاً للحياة. دمار رهيب في العمران في عمق بضعة كيلومترات. تدمير ممنهج لخزّانات المياه والبرك ومحطّات الضخّ. توسّع محتمل في ضرب الكهرباء وتجريف الطرق وتدمير الجسور.

كلّ ما بناه نبيه بري منذ اتفاق الطائف، يلوح اليوم عرضة للدمار. كما الصدر عام 1978، لا يقوى على مقارعة ما يسمّى المقاومة ولا يريد لها أن تكون سبباً لحرب أوسع وأكثر تدميراً.

الموفد الأميركي آموس هوكستين. الذي يعوّل عليه بري لخياطة تسوية ما. تقي الجنوب ما يلوح في أفقه. سمع قبل أيام من وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت أنّ إسرائيل ستزيد وتيرة الاستهدافات في لبنان وتوسّع رقعتها. وأنّها لأجل ذلك تعيد تموضع قوّاتها على الحدود مع لبنان وفق رؤية أكثر هجوميّة.

يراهن برّي أن ليس من مصلحة الحزب الذهاب باتجاه نزاع مفتوح مع إسرائيل، يعرّض المكاسب الاستراتيجية لإيران في المنطقة للخطر ويضعف موقف الحزب داخل لبنان. لكنّه يعرف أنّ رهانه ضعيف. فالحرب الدائرة حالياً، تشكّل اختباراً للقدرات الاستراتيجية للحزب. وفائض الحذر الذي يمارسه بغية الحفاظ على وجوده، قد يشكّل دافعاً لإسرائيل لضربه وتغيير المعادلة.

لا شيء يضمن أن ينجح الحزب على طول الخطّ في موازنته الدقيقة بين الردّ المحدود على الأعمال العسكرية الإسرائيلية. وبين تجنّب إشعال فتيل حرب يخشى عواقبها الوخيمة عليه وعلى إيران.

والحال، فإنّ الصدى في عين التينة اليوم، هو صدى المخاوف العميقة التي عاشها موسى الصدر عام 1978. كما الصدر، يواجه برّي اليوم مهمّة شاقّة لتجنّب نزاع أوسع قد يجرف لبنان برمّته ويعيد رسم خارطة القوى الفاعلة المحلّية والدولية فيه.

نديم قطيش

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.