ميشال بارنييه .. حكومة على الطريقة اللبنانية..
فادي الأحمر
اساس ميديا
يستمرّ إيمانويل ماكرون في كسر الأرقام القياسيّة في الجمهوريّة الفرنسيّة. فبعد انتخابه أصغر رئيس للجمهوريّة (39 عاماً)، وتعيينه أصغر رئيس للحكومة (غبريال أتال 34 عاماً)، ها هو يكسر رقمين قياسيَّين جديدين: أطول مدّة استغرقها اختيار رئيس جديد للحكومة (60 يوماً بعد انتخاب الجمعية الوطنيّة و51 يوماً بعد قبول استقالة الحكومة)، واختيار أكبر رئيس للحكومة. إنّه ميشال بارنييه (73 عاماً).
بعدما كانت الأنظار موجّهة إلى قصر الإليزيه لرؤية صعود الدخّان الأبيض، تتوجّه اليوم إلى قصر ماتينيون لمعرفة شكل الحكومة الجديدة. ما هي حصص الأحزاب فيها؟ من ستضمّ؟ وهل تطرح الثقة بها في أوّل مثول لها في الجمعيّة الوطنيّة؟
اختيار صعب
لم يكن اختيار رئيس جديد للحكومة سهلاً على الرئيس ماكرون، لا بل كان صعباً لسببين:
1- تركيبة الجمعيّة الوطنيّة التي يتوزّع فيها النواب على ثلاث كتل كبرى دون أن تكون لأيّ منها الغالبية النسبيّة ولا المطلقة.
2- فشله في إقامة تجمّع جمهوريّ يضمّ الوسط واليمين الجمهوريّ واليسار الاشتراكيّ كان قد دعا إليه غداة تشكيل الجمعية الوطنيّة.
ضغوطات وتهديدات وأسماء
واجهت جهود ماكرون ضغوطات من قبل الجبهة الشعبيّة الجديدة وتهديد بالإقالة قاده حزب فرنسا الأبيّة (أقصى اليسار).
غداة صدور نتائج الانتخابات أعلن اليسار حقّه في تشكيل الحكومة. ورشّح لوسي كاستيه لرئاستها. وعندما رفض ماكرون هذا الترشيح، هدّده زعيم فرنسا الأبيّة بتفعيل المادّة 68 من الدستور لإقالة الرئيس على خلفيّة التلكّؤ في اختيار رئيس للحكومة. بالطبع التهديد ساقط حتماً. ولكنّه أزعج ماكرون فدفعه إلى إجراء مشاورات مع الكتل والأحزاب والشخصيات. وراحت تتوالى أسماء مرشّحين لرئاسة الحكومة وتسقط الواحد تلو الآخر.
في البداية برز اسم برنار كازونوف الاشتراكي ورئيس الحكومة السابق. كان طرح الاسم بهدف إحراج الحزب الاشتراكيّ لإخراجه من تحالف الجبهة الشعبيّة الجديدة. لم تنجح الخطّة.
بعدها تقدّم اسم برتران كزافييه اليمينيّ الجمهوريّ، لعلّ الاسم يخيف اليسار الاشتراكيّ فيخرج من الجبهة ويقبل بتسوية على قاعدة تجمّع جمهوريّ. وسقط الاسم أيضاً.
على مدى أسبوعين كان الفرنسيون ينامون على اسم مرشّح لرئاسة الحكومة ويستفيقون على اسم آخر. وهو ما دفع إيف ترِيار رئيس تحرير “لو فيغارو” لكتابة مقال بعنوان: “رئيس الحكومة: اللي بعده…”.
بارنييه السّياسيّ الفرنسيّ والأوروبيّ
في النهاية وقع اختيار ماكرون على ميشال بارنييه. من هو الرجل؟
ميشال بارنييه ديغوليّ أصيل ويمينيّ جمهوريّ من الرعيل القديم. بدأ عمله السياسيّ باكراً. كان في سنّ الـ ٢٢ عندما أصبح مستشاراً في منطقته “سافوا” الواقعة في جبال الألب. وانتخب نائباً للمرّة الأولى في 1978 فكان أصغر نائب في الجمعيّة الوطنيّة. وانتخب في 1982 رئيساً لمجلس منطقة سافوا وكان أصغر رئيس له عبر تاريخه. شغل أربعة مناصب وزاريّة: البيئة والقضايا الأوروبيّة والخارجيّة والزراعة. كما انتخب مفوّضاً للاتحاد الأوروبيّ لولايتين. هذه التجربة السياسيّة الطويلة أكسبته خبرة سياسيّة ودبلوماسيّة كبيرة تبلورت في مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبيّ. قاد ميشال بارنييه تلك المفاوضات التي استمرّت أربعة أعوام مظهراً براعة سياسية ودبلوماسيّة وروحاً أوروبيّة عميقة. انتهت المفاوضات باتفاق مؤلّف من 1,500 صفحة يحدّد العلاقة بين الاتحاد الأوروبيّ وبريطانيا.
محبّ للبنان
ميشال بارنييه هو أيضاً رجل علم وثقافة. فهو عضو في المجلس الاستراتيجي للجامعة اليسوعيّة منذ تأسيسه في تسعينيات القرن الماضي. وقد حرص الأب سليم عبو، رئيس الجامعة حينها، على أن يضمّ المجلس شخصيات فرنكوفونيّة كبيرة لبنانيّة وأجنبيّة. فجلس بارنييه في المجلس إلى جانب إيلين كارير دانقوس، رئيسة الأكاديميّة الفرنسيّة الراحلة، وأمين معلوف الرئيس الحالي للأكاديميّة وغيرهما من الشخصيات العلميّة والثقافيّة من لبنان وبلجيكا وسويسرا.
أكّدت شخصيّة أكاديميّة من الجامعة اليسوعيّة لـ”أساس” أنّ بارنييه كان يحرص على حضور اجتماعات المجلس التي كانت تعقد في بيروت مرّة أو مرّتين كلّ سنة. فهو يعرف لبنان جيّداً. وعندما تعذّر عليه الحضور كان يدعو المجلس إلى عقد اجتماعه في ضيافة الوزارة التي كان يشغلها. وهو ما يشير إلى أنّ للبنان مكانة خاصّة عند ميشال بارنييه، “وسوف يعمل رئيساً لحكومة فرنسا على مساعدته للخروج من أزماته”، أضافت الشخصيّة الأكاديميّة. بيد أنّ هناك شرطاً لذلك هو سحب ملفّ لبنان من خليّة الإليزيه، خاصّة بعد فشلها الذريع. العارفون بماكرون والمتابعون لسياسته منذ دخوله الإليزيه يتشكّكون بأنّه سيفعل. فالرجل عنيد لا يبدّل رأيه بسهولة.
مهمّة صعبة
مهمّة بارنييه في تشكيل الحكومة وقيادتها وضمان استمرارها صعبة لكنّها ليست مستحيلة.
– أوّلاً على مستوى التشكيل، أصبح واضحاً، بعد إعلان أوليفييه فور، رئيس الحزب الاشتراكي، أنّ “أيّاً من الشخصيات الاشتراكيّة لن تشارك في الحكومة”، أنّ حكومة بارنييه ستتشكّل من الوسط واليمين الجمهوريّ من دون اليمين المتطرّف طبعاً. حزب ماكرون يريد حصّة وزارية وازنة لأنّه الحزب الأكبر الذي يدعم بارنييه، كما قال أتال رئيس الحزب. شخصيات اليمين الجمهوريّ الأساسيّة، بعد لقائها بارنييه، أعطت انطباعاً باستعدادها للمشاركة في الحكومة شرط أن لا يكون قرارها في الإليزيه. وقال برونو روتايو صراحة إنّ بارنييه “حذر، لكنّنا شعرنا (لديه) إرادة (للعمل) بحرّية كبيرة وباستقلالية كبيرة عن الإليزيه، للذهاب نحو أداء ينسجم حرفيّاً مع (دستور) الجمهورية الخامسة”.
كيف سيوفّق بارنييه بين شراهة حزب ماكرون والصقور في فريقه للتوزير وفي حقائب أساسيّة وبين شرط حزبه الأصليّ؟ هنا ستُمتحن حنكة الرجل السياسيّة والدبلوماسيّة.
– ثانياً على مستوى قيادة الحكومة، يبدو أنّ ماكرون لن يتصرّف مع حكومة بارنييه على طريقة القرار في الإليزيه والتنفيذ في ماتينون. فمعسكره النيابيّ أصبح أضعف من ذي قبل. وبارنييه لن يقبل أن يكون رئيس حكومة منفّذاً لقرارات الإليزيه. فهو لن يُنهي حياته السياسيّة الناجحة بالتنازل عن أن يكون رئيس حكومة بكامل الصلاحيات.
– ثالثاً، إعلان التجمّع الوطنيّ أنّه لن يصوّت لإسقاط الحكومة يضمن لبارنييه صعوبة إسقاط حكومته في الجمعيّة الوطنيّة حين طرح الثقة، كما هدّدت الجبهة الشعبيّة الجديدة.
تبقى الملفّات الشائكة التي تنتظر حكومة بارنييه وفي مقدّمها: الهجرة وقانون سنّ التقاعد وضبط الدين العامّ، وتحسين القدرة الشرائية للفرنسيين. هل ينجح؟