من يسيطر على نفط العالم الجديد يحكم العالم – 1

51

المحامي د. أسامة العرب

في العقود الأخيرة، شهد العالم تحولات جذرية في موازين القِوَى الاقتصادية والسياسية، حيث لم يعد النفط الأسود هو المحرك الأساسي للصراعات الدولية، فاليوم يدخل «النفط الجديد» أو «الرقائق الإلكترونية» في صُلْب الصراع بين القِوَى العظمى، خاصة بين الولايات المتحدة والصين، في حين تبقى تايوان ساحة المعركة الأساسية لهذا الصراع، نظرًا لسيطرتها على حوالي 50 بالمئة من هذا النفط الجديد، و92 بالمئة تقريبًا من أجود أنواعه. ولذلك، تتزامن هذه التحولات مع تحركات سياسية وعسكرية تعيد رسم الخارطة الجيوسياسية للعالم.

 أولًا: النفط الجديد النادر محور الصراع الأميركي-الصيني

في عالم تزداد فيه أهمية التكنولوجيا يومًا بعد يوم، أصبحت الرقائق الإلكترونية العنصر الأساسي في تصنيع مجموعة واسعة من الأجهزة، لاسيما في الأنظمة العسكرية والنووية المتقدمة، وتايوان تقود هذا القطاع الحيوي كونها تمثّل نحو 92% من الإنتاج العالمي لصناعة أشباه الموصلات بدقة أقل من 10 نانومترات، مما يجعلها المزوّد الرئيسي للغالبية العظمى من الرقائق التي تشغل أكثر الأجهزة تقدمًا في العالم، بدءًا من هواتف «آيفون» (iPhone) لشركة «آبل» (Apple) وحتى الطائرات المقاتلة المتطورة «إف-35» (F-35)،  كما تعتبر شركتها «تي إس إم سي» التايوانية الأولى في العالم بهذا المجال.

كذلك، فتوجد الرقائق التي تصنعها شركة «تي إس إم سي» التايوانية في كل شيء تقريبا مثل الهواتف الذكية، ومنصات الحوسبة عالية الأداء، والحواسيب المكتبية واللوحية، والخوادم، ومنصات الألعاب، والأجهزة المتصلة بالإنترنت مثل الأجهزة الذكية القابلة للارتداء، والإلكترونيات الاستهلاكية الرقمية، والسيارات، وتقريبًا كل أنظمة الأسلحة التي بنيت في القرن الـ21. فضلًا عن أن 60% من الرقائق التي تصنعها شركة «تي إس إم سي» التايوانية لا يمكن أن تتخلى عنها الشركات الأميركية بتاتًا.

لهذا الأمر، نجد أن الصراع على تايوان أكبر من الصراع حتى على الخليج العربي، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه منذ عام 2010 أصبحت تايوان تملك أكبر حصة على مستوى العالم من قدرات تصنيع الرقائق بدقة 300 نانومتر، و90 نانومتر، و60 نانومتر، وأصبحت لاحقًا تهيمن على سوق التصنيع بتقنية 10 نانومترات، أما اليوم فقد سبقت العصر بالانتقال السلس لمرحلة التصنيع بدقة 3 نانومترات، وبهذا ازدادت من قوة إلى قوة، في حين تأخر أقرانها كثيرًا، حيث لا تمتلك «إنتل» بعد التكنولوجيا لإنتاج رقائق بتقنية 5 نانومترات وأقل، كما لا تزال «سامسونغ» تكافح لتحسين إنتاجية الرقائق بدقة 4 نانومترات، الجيل السابق.

ولتبيان مدى أهمية هذا النفط الجديد النادر، نشير للقارئ الكريم أن انقطاع تايوان لمدة عام واحد عن توريد الرقائق المتطورة لأميركا، سيكبد شركاتها العالمية خسارة تقدر بنحو 600 مليار دولار. وبالتالي، فإن هذا الاحتكار يدفع بالصراع بين الصين والولايات المتحدة إلى مستويات غير مسبوقة، حيث يسعى كل منهما للسيطرة على هذه الصناعة الاستراتيجية. ونعود ونكرر أنه من الناحية العملية، إنّ الرقائق الإلكترونية لا تعني مجرد مكونات تقنية كما يعتقد البعض، بل هي المحرك الأساسي الذي يعتمد عليه تصنيع الهواتف الذكية، والحواسيب، والسيارات، وحتى الأنظمة العسكرية والنووية. وهذه الأهمية الاستراتيجية تجعل من السيطرة على تصنيع الرقائق قضية أمن قومي للدول العظمى، لاسيما أن أحدًا لن يشتري على سبيل المثال طائرات أو صواريخ بعيدة المدى متخلفة عن عصر العولمة والتكنولوجيا، مما قد يقضي على أهم مورد مالي للدول العظمى التي لا تمتلك تقنية الرقائق المتطورة.

وبناءً عليه، بالنسبة للصين التي تعتمد بشكل كبير على الواردات في هذا المجال، فيمثل الاستحواذ على صناعة الرقائق التايوانية تحديًا كبيرًا. في المقابل، تحاول الولايات المتحدة حماية تفوقها التكنولوجي من خلال فرض قيود على تصدير هذه التكنولوجيا المتقدمة إلى الصين، ودعم الشركات الأميركية في هذا القطاع. ولذلك، فإن التوتر بين البلدين تصاعد بعد سلسلة من الإجراءات الأميركية التي استهدفت عزل الصين تكنولوجيًا؛ فمن بين هذه الإجراءات، قرار إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب بإدراج شركة هواوي على القائمة السوداء ومنع الشركات الأميركية من تزويدها بالمكونات التكنولوجية. والحقيقة أن هذا النهج نفسه استمر في عهد الرئيس جو بايدن، حيث قامت إدارته بفرض قيود إضافية على تصدير تكنولوجيا الرقائق المصنوعة من السيليكون إلى الصين، مما دفع الصين لتمسكها ببسط سيطرتها على تايوان وصناعاتها، والتشدد باعتمادها سياسة الصين الواحدة، التي تخضع تايوان لسيادتها الإقليمية.

ثانيًا: المناورات العسكرية الصينية حول تايوان ومدى قدرتها للاستيلاء عليها

إن تايوان تتمتع بحكم ذاتي منذ عام 1949 عندما فرّ القوميون إلى الجزيرة بعد هزيمتهم على أيدي القِوَى الشيوعية خلال الحرب الأهلية الصينية؛ ومنذ ذلك الحين، تعدّ الصين تايوان جزءًا من أراضيها وستستردّه «حتى وإن تطلّب الأمر استخدام القوة». لذا، في السنوات الأخيرة،  لم تقتصر تحركات الصين على الجانب الاقتصادي فحسب، بل امتدت لتشمل الجانب العسكري، حيث زادت من وتيرة مناوراتها العسكرية حول تايوان، مما يعكس نواياها الجدية بالسيطرة على تلك الجزيرة.

كما أعلنت الصين أن مناوراتها العسكرية الأخيرة حول تايوان تهدف إلى اختبار قدرة جيشها على «الاستيلاء على السلطة» في الجزيرة التي تتمتع بحكم ذاتي؛ ذلك أن الصين تعتبر تايوان جزءًا لا يتجزأ من أراضيها وتتعهد باستعادتها ولو بالقوة، مما أثار القلق في المجتمع الدَّوْليّ حول احتمال نشوب صراع عسكري في المنطقة.

وفي هذا السياق، فرضت الصين مؤخرًا عشرات السفن والطائرات الحربية طوقًا حول تايوان في خطوة وصفتها بكين بأنها «تحذير جدّي» إلى «القِوَى الاستقلالية» التايوانية؛ وقد جاءت هذه المناورات بعد أيام من أداء لاي تشينغ-تي، الذي تصفه الصين بأنه «انفصالي خطر»، قَسَم اليمين الدستورية ليُنصّب رئيسًا تايوانيًا جديدًا.

يتبع الإثنين

د. أسامة العرب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.