من “الجنرال ثلج” إلى “الجنرال صيف”
بقلم محمد السماك
«أساس ميديا»
يذكر التاريخ حربين انتصر فيهما “الجنرال ثلج”. الانتصار الأوّل على نابليون وقوّاته. والانتصار الثاني على هتلر وقوّاته. ومنذ تقاعد “الجنرال ثلج” وتبوّأ “الجنرال صيف” القيادة، تحوّل مسرح العمليات في العالم.
تقول الدراسات الإحصائية أنّ موجة الحرّ التي اجتاحت أوروبا في عام 2003 أدّت إلى وفاة 70 ألف شخص “بضربة شمس”. في ذلك الوقت اعتُبرت موجة الحرّ “ظاهرة العصر”. هذا العام (2024) سجّلت أجهزة الرصد والمراقبة ارتفاعاً جديداً غير مسبوق في درجات الحرارة خلال شهر حزيران الماضي وخلال هذا الشهر (تموز) أيضاً. ومن المتوقّع أن يسجّل شهر آب رقماً عالمياً جديداً في الارتفاع، على غرار ما حدث في الشهر ذاته في العام الماضي (2023)، حيث بلغت نسبة الارتفاع درجة ونصفاً. وهو أعلى رقم سُجّل في تاريخ الإنسانية منذ أن بدأ تسجيل حرارة الكرة الأرضية.
خلال موسم الحجّ هذا العام، سجّلت السلطات السعودية وفاة 1,300 شخص من جرّاء ارتفاع الحرارة التي وصلت إلى خمسين درجة في الظلّ.
الحرارة تفتك بالعالم
في الولايات المتحدة تقول الدراسات الإحصائية إنّ مئة مليون أميركي يعيشون في مناطق بين بالتيمور وفيلادلفيا معرّضون لمشاكل صحّية نتيجة تجاوز الحرارة درجة الأربعين. وسجّلت السلطات الهندية بين آذار وحزيران الماضيين إصابة 40 ألف شخص بنوبة قلبية نتيجة ارتفاع الحرارة. ويؤكّد العلماء أنّ التعرّض لحرارة مرتفعة يصيب الإنسان بأمراض القلب.
نشرت مجلّة “لانست” العلمية دراسة إحصائية أكّدت أنّه في عام 2019 سُجّلت وفاة 345 ألف إنسان (معظمهم فوق الستّين عاماً) نتيجة ارتفاع الحرارة، وأنّ هذا الرقم كان يمكن أن يكون مضاعفاً لو لم تتوافر وسائل التبريد والتهوئة.
سجّلت الدراسات أيضاً أنّ درجة الحرارة في المناطق الفقيرة المكشوفة التي تفتقر إلى التبريد الداخلي (المخيّمات الفلسطينية مثلاً) تزيد حرارتها بنسبة ستّ درجات عن المناطق الداخلية الأخرى.
لا يعني ارتفاع درجات الحرارة عاماً بعد عام وارتفاع عدد ضحايا هذا الارتفاع، وكذلك ارتفاع نسبة الخسائر المادّية التي تتعرّض لها اقتصادات الدول المختلفة، أنّه قدر لا يمكن تجنّبه.
الاقتصاد هو السبب
إنّ قرارات وتوجيهات المؤتمرات العلمية والسياسية العالمية حول التعاون المشترك لخفض الانبعاثات الملوِّثة للبيئة التي تلعب دوراً رئيسياً في ارتفاع حرارة الكرة الأرضية لم تجد طريقها إلى التنفيذ. ويعود ذلك إلى التنافس الاقتصادي الجشع وإلى مواصلة إطلاق غازات ثاني أوكسيد الكربون التي “تزيد الطين بلّة”. فالمؤتمرات الدولية التي تدعو إلى التعاون المشترك لإنقاذ الحياة على الأرض تنتهي بمواصلة كلّ دولة لمشروعاتها الوطنية الإنمائية الخاصة على حساب سلامة البيئة المشتركة.. وعلى حساب صحّة الكرة الأرضية.
في سنغافورة بدأ منذ سنوات التنظيم المدني إعادة النظر في طريقة بناء البيوت من حيث تلوينها بالأبيض لعكس حرارة الشمس، أو التشجير لزيادة التهوئة وتوسيع مساحات الظلّ. وفي فرنسا التي دفعت الثمن غالياً في عام 2023، وُضعت خطّة وطنية لمواجهة ظاهرة الاحتباس الحراري وأعطت ثمارها هذا الصيف (الملتهب بالصراعات الحزبية والسياسية). وبعد الذروة في نسبة الضحايا في عام 2019، تجاوزت فرنسا موجة هذا العام بأقلّ قدر من الضحايا والخسائر، فقد هبطت نسبة الضحايا 90 في المئة.
من هنا السؤال: هل يعني النجاح (التجربة الفرنسية) في مواجهة تداعيات ارتفاع حرارة الكرة الأرضية المضيّ قدماً في المشاريع التي تؤدّي إلى المزيد من ارتفاع الحرارة؟ وماذا عن الدول والمجتمعات التي تفتقر إلى المعارف والقدرات المالية والتنظيمية التي تملكها الدولة الفرنسية؟
في لبنان مثلاً تفتقر الدولة حتى إلى إحصاء عدد ضحايا الضربات الشمسية أو حتى عدد المصابين بأزمات قلبية جرّاء ارتفاع درجات الحرارة. ولا تملك مشروعاً للبيئة، وتفتقر إلى رؤية علمية حول كيفية معالجة جمع النفايات التي تُحرق في زوايا الشوارع لترفع من نسبة التلوّث الخانق.
في عام 2003 ضربت موجة حرّ أوروبا وأدّت إلى موت 70 ألف إنسان. وُصف ذلك بأنّه كارثة العصر. غير أنّ موجات حارّة قاتلة من هذا النوع لم تعد حدثاً طارئاً. أصبحت من الوقائع التي يتحتّم على الإنسان أن يتعايش معها وأن يخفّف من أعبائها الصحّية والاقتصادية والاجتماعية، وهو ما تعمل عليه دول ومجتمعات العالم. فالحرارة في شهر آب 2023 كانت أعلى درجة ونصفاً ممّا كانت عليه في عام 1900. وهي هذا العام أكثر سوءاً وأشدّ خطراً على الصحّة العامّة.
وهي أسوأ وأخطر ما تكون في قطاع غزة من فلسطين المحتلّة، حيث البيوت مدمّرة، وحيث يفترش الناس أو من بقي منهم من القصف الإسرائيلي التدميري الأرض ويلتحفون السماء، لا يسألون عن تبريد خيمهم الممزّقة، لكنّهم يبحثون عن جرعة من الماء لإرواء عطشهم الملتهب تحت أشعّة الشمس ولهيب صواريخ العدوّ الإسرائيلي وقنابله الفوسفورية الحارقة.
تمنع إسرائيل وصول المساعدات الغذائية، وخاصة مياه الشرب، إلى أهالي قطاع غزة المدمّر والمحاصر. وتأمل أن ينجح “الجنرال عطش” و”الجنرال جوع” حيث فشل جنرالاتها العسكريون.
عرفت ذلك موسكو أيام اجتياح نابليون، وعرفته ليننغراد أيام الهجوم الهتلريّ. وبقيت موسكو وبقيت ليننغراد.. وستبقى غزة.. ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون!!
محمد السماك