مخاطر إدراج لبنان على اللائحة الرمادية لغسل الأموال

42

بقلم د. ابراهيم العرب

إن إدراج لبنان على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي (FATF) جاء بعد سنوات من التحذيرات الدولية التي حثت البلاد على الامتثال لمعايير مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. يمثل هذا الإدراج نقلة نوعية في تقييم المجتمع الدَّوْليّ للبنان، إذ يصنّف ضمن الدول التي تعاني من نقص واضح في المعايير اللازمة لمكافحة الجرائم المالية. في هذا السياق، تحمل هذه الخطوة تداعيات كبيرة، ليس فقط على القطاع المصرفي، بل على الاقتصاد والمجتمع اللبناني ككل، مع احتمالات لمخاطر عدة في حال عدم معالجة الوضع.

بادئ ذي بدء، يُعتبر إدراج دولة ما على اللائحة الرمادية بمثابة إشارة تحذيرية، تعني أن هذه الدولة تُعاني من قصور في تطبيق المعايير الدولية لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، ما يستدعي وضعها تحت مراقبة خاصة. وعادةً ما يؤدي هذا الإدراج إلى فرض تدابير إصلاحية على القطاع المالي، تتطلب التزامًا كبيرًا بمعايير الامتثال، وإجراء تحسينات هيكلية على المستوى التنظيمي والمالي. هذه التدابير قد تكون مكلفة للدولة التي تُدرَج على اللائحة الرمادية، وتستوجب التزامًا مستمرًا بتنفيذ الإصلاحات.

من مخاطر هذا الإدراج على الاقتصاد اللبناني، أن لبنان سيواجه أصلًا أزمة اقتصادية ومالية معقدة، فمع إدراجه على اللائحة الرمادية، قد تتفاقم هذه الأزمة نظرًا لأن التداعيات تشمل عدة مستويات؛ أبرزها تزايد القيود على التعاملات المالية الدولية، حيث ستواجه المصارف اللبنانية صعوبة في الحفاظ على العلاقات المصرفية مع البنوك الأجنبية، خاصةً في أوروبا وأميركا، مما قد يؤدي إلى تقليص حجم التحويلات المالية إلى لبنان، التي هي مصدر أساسي للعملات الأجنبية التي يعتمد عليها الاقتصاد المحلي.

ومع تصنيف لبنان ضمن الدول ذات المخاطر العالية في تبييض الأموال، قد تتخذ بعض المصارف الدولية إجراءات حذرة تجاه التعامل مع نظيراتها اللبنانية. وبذلك، قد تتراجع شبكة العلاقات المصرفية العالمية للبنان، مما قد يزيد من عزلته المالية ويصعّب على القطاع المصرفي إجراء التحويلات الدولية بسهولة. وهذه العزلة قد تضرّ بشكل خاص بالقطاع التجاري الذي يعتمد على الاستيراد، مما يؤدي إلى ارتفاع تكاليف الاستيراد وصعوبة الوصول إلى البضائع الأساسية.

كما يُتوقع أن يتعرض القطاع المصرفي المحلي لضغوط إضافية لتعزيز نظم الامتثال، مما يعني تكاليف أعلى على البنوك لتلبية متطلبات FATF. وقد يتم تحميل هذه التكاليف في نهاية المطاف للزبائن من خلال زيادة رسوم الخدمات المصرفية، مما ينعكس سلبًا على المواطنين ويؤدي إلى ارتفاع تكاليف المعاملات المالية.

وسيؤدي إدراج لبنان على اللائحة الرمادية إلى تراجع ثقة المستثمرين الأجانب والمجتمع الدَّوْليّ بشكل عام في الاقتصاد اللبناني، مما يضعف من جاذبية البلاد للاستثمار، حيث يعاني لبنان حاليًا من نقص في الاستثمارات الأجنبية المباشرة، ويعتمد على هذه الاستثمارات في دعم نموه الاقتصادي. وعلى هذا، فبوجوده على اللائحة الرمادية، سيزداد تخوف المستثمرين من ضخ أموالهم في اقتصاد يعتبر محفوفًا بالمخاطر.

وبالتالي، سيؤدي نقص الاستثمارات إلى تراجع في تدفقات رؤوس الأموال، مما ينعكس سلبًا على الاقتصاد ويزيد من التحديات أمام الحكومة في تحقيق الاستقرار المالي والنمو. وقد تؤدي هذه العوامل إلى استمرار الركود الاقتصادي وتفاقم معدلات البطالة والفقر.

وبينما قد لا يلحظ المواطن اللبناني تداعيات فورية لإدراج بلاده على اللائحة الرمادية، إلا أن التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية ستظهر تدريجيًا بمرور الوقت، حيث قد يؤدي تراجع التحويلات المالية وتزايد العزلة المصرفية إلى ارتفاع الطلب على الدولار، مما يضع ضغطًا على الليرة اللبنانية، ويزيد من تكلفة الحصول على العملات الأجنبية، وهي مسألة حيوية في اقتصاد يعتمد بشكل كبير على الدولار الأميركي.

كما ستكون هنالك نتيجةً لذلك ضغوطًا مفروضةً على البنوك لتعزيز الامتثال، حيث ستزداد رسوم الخدمات المصرفية، مما ينعكس سلبًا على المواطن الذي يعتمد على هذه الخدمات في حياته اليومية.

إن تشديد الرقابة على التحويلات، سيعرّض التحويلات المالية الدولية لتدقيق أكبر، مما قد يؤدي إلى تأخير وصول الأموال للمستفيدين ورفع تكاليفها، وهو أمر قد يضر بالعائلات التي تعتمد على تحويلات أبنائها في الخارج.

وعليه، فإن القطاع المصرفي اللبناني سيكون في قلب الأزمة، حيث يتوقع أن يتعرض لضغوطٍ إضافية ناتجة عن تشديد المعايير الدولية في التعاملات المالية. مما سيتطلب من البنوك المحلية تقديم مزيد من الوثائق لتثبت التزامها بمعايير الشفافية المالية، الأمر الذي يزيد من عبء الالتزام وينعكس على العمليات التشغيلية، وقد يؤثر ذلك سلبًا على سمعة القطاع المصرفي، الذي يعاني بالفعل من أزمات متعددة، ويزيد من احتمالية فقدان الثقة فيه، سواء من قبل اللبنانيين أو الجهات الدولية.

وفي ظل هذا الواقع، فإن الخروج من اللائحة الرمادية يتطلب من لبنان اتخاذ إجراءات إصلاحية جذرية على المستويات التنظيمية والقضائية والمالية. حيث تحتاج الحكومة اللبنانية إلى تحسين الرقابة المالية، وتعزيز الشفافية في التعاملات المالية، وملاحقة الجرائم المالية بجدية أكبر. كما أن هذه الإجراءات تشمل أيضًا تطوير التشريعات وتطبيقها بفعالية، إلى جانب تعزيز قدرات هيئة التحقيق الخاصة لتعمل بفاعلية أكبر على مكافحة تبييض الأموال.

ورغم أن التحديات تبدو كبيرة، فإن الالتزام بالمعايير المطلوبة قد يكون فرصة لفرض إصلاحات هيكلية تعيد بناء الثقة الدولية بالقطاع المالي اللبناني؛ إلا أن هذا المسار يتطلب جهدًا مكثفًا من المؤسسات المعنية ووجود إرادة سياسية جادة.

ختامًا، مع استمرار الانحدار الذي يشهده لبنان حاليًا، قد يكون هناك خطر أكبر يتمثل في إدراجه على اللائحة السوداء مستقبلًا، إن لم يتم العمل على تحسين الوضع الراهن، مما يعني أن السلطات اللبنانية مطالبة باتخاذ خطوات عاجلة لتجنب الانحدار نحو تصنيف أشد قسوة. وقد يتطلب ذلك تحقيق نتائج ملموسة على أرض الواقع، خصوصًا في قطاعي القضاء والمصارف، لتجنب العواقب الوخيمة التي ستترتب على هذا التصنيف.

وتأسيسًا على كل ما تقدم، يشكل إدراج لبنان على اللائحة الرمادية تحدّيًا بالغًا، حيث يهدّد بتعميق الأزمات المالية والاقتصادية ويزيد من عزلة لبنان المالية. أما الخروج من هذه اللائحة فيتطلب التزامًا جادًا بإجراء إصلاحات شاملة تعكس قدرة المؤسسات اللبنانية على الامتثال للمعايير الدولية، وهو مسار طويل ومعقّد لكنه ضروري لفتح آفاق جديدة أمام الاقتصاد اللبناني.

د. ابراهيم العرب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.