ماذا فعل السّنوار بالعالم وتوازناته؟

30

هشام عليوان

«اساس ميديا»

الطوفان بكلّ أوجهه التدميرية، وقد أمر به قائد غزّة العام الماضي، السجين السابق لدى إسرائيل، يحيى السنوار، هو الذي غيّر ويغيّر الكثير في المنطقة والعالم. فهو الذي نسف ما يُسمّى قواعد اللعبة بين إسرائيل وحماس في جنوب فلسطين المحتلّة، وبينها وبين الحزب في شمالها. بل كشف القيمة الحقيقية لاستراتيجية الردع الصاروخي لإيران ووكلائها في المنطقة. فهذه الاستراتيجية سقطت في أوّل اختبار ملموس لها.

بات أكيداً أنّ صواريخ إيران ووكلائها لا تردع إسرائيل عن تدمير الحواضر الآهلة بالسكّان. ومن باب أولى، هي عاجزة عن تحرير فلسطين. بالطبع، لم يكن هدف السنوار تخريب خطط إيران ووكلائها، التي استغرق إعدادها سنوات طويلة. لكنّ العملية المباغتة للسنوار ورفاقه فاجأت الجميع.

ليس هذا وحسب، بل خسر الحزب أغلى ما عنده من قادة وكوادر وإمكانات بسبب طوفان الأقصى، ولأجل إسناد قطاع غزة. علاوة على الخسائر الهائلة التي لحقت بالبيئة الحاضنة له. وهذه الخسائر تتخطّى أيّ فائدة كانت تُرتجى من هذه المعركة.

هنا تتوالد أسئلة كثيرة عن المغزى، والتخطيط، والتوقّعات، والاستعدادات، والسقطات والعثرات قبل النجاحات والإنجازات. لكنّ الأكثر إثارة للفضول هو التساؤل عن سبب انفراد حماس بمعركة كان يُراد منها أن تكون من ضمن وحدة الساحات؟

لكن هل انفردت حماس حقّاً دون تنسيق مع بقيّة الحلفاء، لا سيما إيران والحزب؟ ولماذا بادرت إلى الهجوم المعروفة مآلاته وعواقبه الوخيمة؟

أمّا لو كان “الطوفان” كلمة السرّ لهجوم منسّق من جميع الجبهات، فلماذا تراجعت إيران، وتلكّأ الحزب عن تلبية نداء محمد الضيف، قائد كتائب عزّ الدين القسّام؟

بغضّ النظر عن حقيقة الموقف، يُطرح سؤال متفرّع من الأوّل، وهو: هل أخطأ الحزب بعدم الدخول بكامل قواه في الحرب التي أشعلها يحيى السنوار، في اللحظات الأولى عندما كانت إسرائيل في حالة ضياع؟ أم ما فعله من معركة محسوبة بدقّة كان انسجاماً مع مبادئه من جهة، ورعايةً لمصالحه من جهة أخرى، فهو لم يتخلَّ عن أهل غزة في محنتهم، لكنّه كان حريصاً بالمقابل على عدم تعريض بيئته الشعبية للدمار الشامل، بالتزامه قواعد لعبة لم تعد قائمة؟

يُقال الآن إنّ الحزب أخطأ عندما قرّر الدخول في نصف حرب، ووفق قواعد ساقطة، وفي ظروف مختلفة تماماً. لقد أدرك الأمين العام للحزب، متأخّراً، ولا سيما عندما انطلقت حملة الإبادة المنهجية لقادة الحزب وكوادره، أنّ كلّ ضبط النفس الذي مارسه في ما يقارب عاماً من معركة الاستنزاف، لتجنيب مؤيّديه خاصة، واللبنانيين عامة، ويلات الحرب المدمّرة، لم ينتج عنه سوى مزيد من التجرّؤ الإسرائيلي على تجاوز الخطوط الحمر، فيما كانت إسرائيل قد أظهرت نمطاً جديداً من السلوك في قطاع غزة، عندما أبدت استعدادها لحرب طويلة، ومكلفة، ودون أن تعيقها مسألة الأسرى لدى حماس والفصائل. هذه المعطيات الجديدة تماماً بدلّت وجه الحرب، فلم تعد تنفع معها التوقّعات السابقة، ولا الاحتمالات، ولا حتى الأدوات القديمة.

تدمير غزّة وتهجير أهلها

بالنسبة لغزّة نفسها، لم تلبث نشوة النصر فيها إلا قليلاً، عقب النجاح المنقطع النظير لعملية “طوفان الأقصى” في اقتحام المواقع العسكرية والاستخبارية في غلاف غزة، إضافة إلى اجتياح المستوطنات المنتشرة حول القطاع.

استغلّ نتنياهو الحدث الصعب جدّاً لحشد تأييد عالمي غير مسبوق خلف خططه الرامية إلى اجتثاث الخطر من القطاع بشكل نهائي، مع ما يعني ذلك من تدمير كامل لما فوق الأرض وتحتها، لإزالة شبكة الأنفاق، علاوة على نزع سلاح المقاومة في غزة، ونفي المقاتلين ومعهم قادتهم، بصحبة أقاربهم وعائلاتهم المناصِرة للحركة، أي عشرات الآلاف من سكان غزة في أقلّ تقدير. وهذا بشكل مباشر، كما هو الطرح الأخير لحكومة نتنياهو.

لكن بعد تدمير وسائل العيش في القطاع، فمن المتوقّع إذا أُتيحت الفرصة، أن يهاجر “طوعاً” مئات الآلاف غيرهم. وهذا يُسمّى في الأدبيات الصهيونية بـ “الترانسفير”. ولا شيء يمنع وقوع الهجرة “الطوعية” لاحقاً، وبوتائر متصاعدة عقب وقف إطلاق النار، حتى لو امتنع السنوار عن قبول الصفقة وفق المعادلة التالية: السلامة الشخصية مقابل تسليم الأسرى. فما وقع قد وقع، وأصبح سكّان غزة قاطبة تحت رحمة الاحتلال الإسرائيلي، لجهة توفير المستلزمات الأساسية للحياة، ولا إعمار ولا ازدهار، لا تعليم ولا عمل، ولا أسقف تغطّي الرؤوس، ولا منازل تؤوي الأسر المشرّدة. بعبارة مختزلة: هي الهزيمة الكاملة، بالمعيار المادّي. لكن ليس هذا سوى نصف الحكاية. النصف الآخر منها أنّ السنوار ورّط إسرائيل وحلفاءها في مستنقع لن يخرجوا منه دون جروح غائرة في الصورة، والهيبة، والشرعية، بمعنى أنّه جرّدهم من كلّ إمكانيات التأثير من خلال القوّة الناعمة، واضطرّهم إلى استعمال القوّة الصلبة بكامل أوجهها المتوحّشة. وهذا مؤدّاه أخيراً تحقيق مكسب استراتيجي أساسي، وهو إحياء القضية الفلسطينية، ومنع الصهيونية بوجهيها اليهودي والغربي من تصفيتها بطرق وأساليب ملتوية.

إنجازات بنظر حماس

أمّا الإنجازات في المدى المنظور، من وجهة نظر حماس، فيمكن تلمّسها في ثلاثة مستويات:

1- على الرغم من الخسائر الهائلة التي أُصيب بها سكّان غزة جرّاء أجرأ عملية فدائية في تاريخ المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر (تشرين الأول من العام الماضي)، إلا أنّ الردّ الإسرائيلي المدعوم أميركياً وأوروبياً، والذي يلامس الإبادة المنهجية، مع سدّ الأفق السياسي تماماً أمام أيّ حلّ تفاوضي، كشف هزال المسار السلمي منذ اتفاق أوسلو عام 1993، والذي كان مجرّد إلهاء للفلسطينيين وإضاعة الأوقات ريثما يتمكّن المستوطنون من مصادرة الأراضي في الضفة وبناء المستوطنات عليها، حتى لا يبقى منها شيء. والآن، على الرغم من الجراح، لا طريق أمام الفلسطينيين إلا القتال، لأنّهم باتوا أمام خطر وجودي. وما فعله السنوار إنّما هو تسريع المسار واختزال الوقت.

2- باتت حركة حماس تدرك تماماً هامش التحرّك لدى حلفائها في محور الممانعة، ولو بكلفة باهظة. والأهمّ أنّ التجربة الأليمة في غزة كشفت عوائق الحركة الفعّالة والسريعة لإيران، حتى في نجدة حلفائها. بل إنّ حماس كانت شاهدة على مدى البطء في الردّ مثلاً على اغتيال رئيس الحركة إسماعيل هنية، عندما كان في ضيافة الحرس الثوري الإيراني شمال العاصمة طهران. فالإيرانيون مشهورون بانفعالاتهم المتثاقلة، وبمراجعة حساباتهم بدقّة قبل اتّخاذ أيّ موقف أو اعتماد أيّ إجراء. وهذه المسألة منحت إسرائيل على وجه الخصوص انطباعاً قد يكون صحيحاً بأنّها قادرة على تخطّي كلّ الخطوط دون أيّ عواقب جدّية. ولم تردّ إيران على نحوٍ مختلف إلا عندما خاطب نتنياهو الشعب الإيراني واعداً إيّاه بتحريره من نظام الاستبداد.

3- كشفت الحرب الإسرائيلية الشرسة على قطاع غزة، والتي أسقطت عشرات الآلاف من الشهداء وأضعافهم من الجرحى، مدى العلاقة العضوية بين الولايات المتحدة وإسرائيل. كانت هذه العلاقة معروفة وعلنية منذ سنوات طويلة. لكن ما تبدّى على مدى العام الجاري من شبه تبعية القرار الأميركي للقرار الإسرائيلي، جعل المراقبين يحتارون في توصيفها: فهل إسرائيل تابعة للولايات المتحدة، أم بلاد العم سام خاضعة لسياسات إسرائيل لما تمتلكه من نفوذ ساطع في أروقة الكونغرس ولجانه المتخصّصة، وفي بنية الحزب الديمقراطي خاصة، وفي البيئة اليمينية الإنجيلية المتطرّفة، التي يمثّلها الحزب الجمهوري حالياً؟

الأسوأ من ذلك أنّه إذا كان الديمقراطيون متعاطفين تاريخياً مع إسرائيل، فإنّ المتطرّفين الجمهوريين، الذين يحتلّون مواقع ومناصب رفيعة في مناصب الدولة ومؤسّساتها، يقرأون الصراع في فلسطين المحتلّة بعيون توراتيّة، وهم ينتظرون النزول الثاني للسيد المسيح. وهذا المنحى الديني في مساندة جرائم إسرائيل، له انعكاس إيجابي على المقاومة الفلسطينية ذات الطابع الديني، وهو ما يسمح لها بالصمود والتجدّد مهما تتعرّض له من هزائم عسكرية أو خسائر بشرية.

هشام عليوان

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.