ماذا أرادَ نتنياهو من عمليّة “البيجر”؟
ابراهيم ريحان
اساس ميديا
دخلَت المواجهة المُستمرّة بين الحزب وإسرائيل منعطفاً هو الأخطر في تاريخ المواجهات بين الجانبَيْن بعد ما عُرِفَ بـ”مجزرة البيجر”. فقد جاءَت العمليّة الأمنيّة التي تخطّى عدد ضحاياها الـ10 وجرحاها الـ2700 في توقيتٍ يجمعُ بين ارتفاع نسبة التوتّر على الحدود الجنوبيّة للبنان، وتلويح حكومة بنيامين نتنياهو بعمليّة لإعادة المستوطنين إلى الشّمال، وغياب الأفق السّياسيّ للحلّ في قطاع غزّة. والأهمّ أنّها جاءَت على بُعدِ أسابيع قليلة من موعد الانتخابات الرّئاسيّة الأميركيّة في 5 تشرين الثّاني المُقبل، وقبل 3 أسابيع من انقضاء السّنة الأولى للحرب المُشتعلة في المنطقة. فلماذا جاءَت العمليّة في هذا التّوقيت؟ وماذا يريد نتنياهو منها؟ وكيف سيتصرّف الحزب ومعه المحور؟
اختار رئيس الوزراء الإسرائيليّ تصعيداً من نوعٍ جديدٍ مع الحزب. فبعدَ أيّامٍ من مناورات سياسيّة قادها نتنياهو في إسرائيل، وترقّب ماهيّة الخطوة العسكريّة التي سيقومُ بها جيشه عند حدود لبنان، جاءَ الهجوم بإطارٍ أمنيّ – استخباريّ من حيثُ لا يتوقّع أحد.
كثيرةٌ هي الأسباب التي دفَعَت نتنياهو لاختيار هذا النّوع من الهجمات. وإن كانَ موقع “أكسيوس” الأميركيّ قد نقلَ عن مصادر أميركيّة قولها إنّ عمليّة “البيجرز” كانَ مُقرّراً أن تكون بداية هجومٍ إسرائيليّ واسع على لبنان، وإنّ إسرائيل نفّذتها خشية انكشاف الأجهزة المُفخّخة، إلّا أنّ مصدراً في وزارة الخارجيّة الأميركيّة قال لـ”أساس” إنّ نتنياهو أرادَ من هذه العمليّة رفع مستوى الضّغط على الحزبِ لمحاولة فصل جبهة غزّة عن لبنان، وإنّه كشفَ إحدى “أوراق القوّة” التي بحوزة تل أبيب بشكلٍ مُتعمِّد كرسالة عالية النّبرة للحزبِ، يعتقِد أنّها قد تلعبُ دوراً أساسيّاً في الضّغط على قيادته.
يقول المصدر إنّه لو كانَت إسرائيل تخشى انكشاف التفخيخ لكان هذا الأمر منطقيّاً حين وصلَت الشّحنة إلى الحزبِ وليسَ بعد أشهر من استعمالها، إذ لم يُسجّل أيّ حادث أدّى إلى انفجار أجهزة الإرسال ووضعها في موقع الشّكّ.
لماذا أقدَم نتنياهو على هذه العمليّة؟
– لا يزال رئيس الوزراء الإسرائيليّ يُعطي إشاراتٍ مُبهمة إلى ما ينوي فعله على الجبهة الشّماليّة. إذ كانَ نتنياهو طوال الأشهر الماضية أقلّ المسؤولين الإسرائيليين حماسةً لخوضِ حربٍ واسعة في لبنان، على عكسِ وزير دفاعه يوآف غالانت الذي كانَ مُتحمّساً بداية الحرب، قبل أن يُغيِّرَ رأيه في هذه المسألة قبل أشهر قليلة. وحينَ صارَ غالانت أقرَب إلى رأيِ نتنياهو، اختارَ الأخير أن يذهَبَ بالاتّجاه المُعاكس. هذه المناورة السّياسيّة بين نتنياهو وغالانت مردّها إلى خلافات سياسيّة “ليكوديّة”. إذ يرى نتنياهو في وزير دفاعه تهديداً سياسيّاً لأنّه من خلفيّة عسكريّة، وقد سجّلَ التّاريخ القصير في الكيان العبريّ وصول الشّخصيّات العسكريّة إلى السّلطة، خصوصاً إذا ما كانت في سجلّهم “قصّة نجاح”. وأبلغُ مثال على ذلكَ آرييل شارون الذي وصلَ لرئاسة الحكومة وحزب الليكود على متن الدّبابات التي اجتاحت لبنان عام 1982. وإسحاق رابين الذي وصلَ إلى رئاسة الوزراء وحزب العمل بعد تسلّمه رئاسة الأركان في “حرب الأيّام السّتّة” في 1967. ورئيس الوزراء الأسبق إيهود باراك الذي قادَ حزب العمل أيضاً وفي سجلّه قيادة عمليّة اغتيال المسؤولين في حركة فتح أبي يوسف النّجّار وكمال عدوان وكمال ناصر في “عمليّة فردان” سنة 1973، وكانَ في حينها قائد وحدة القوات الخاصة “سايريت ماتكال”.
– إلى جانب “تطويع وإضعاف” غالانت، لعبَ نتنياهو على حِبال ألّا يذهب بعيداً في استفزاز الأميركيين بإقالةِ وزير الدّفاع الذي يُعتبر صلة الاتّصال الوثقى بين واشنطن وتل أبيب. وكانت العمليّة ذريعة لاستبعادِ عمليّة استبداله بجدعون ساعر التي ارتفعَت أسهمها أثناء السّاعات القليلة التي سبقت العمليّة، قبل أن يُعلن الإعلام الإسرائيليّ أنّ “الأوضاع الأمنيّة غير مؤاتية لاستبدال وزير الدّفاع في هذه اللحظة”.
– يحاول نتنياهو أن يُناوِرَ سياسيّاً على معارضيه أمثال الوزير السّابق بيني غانتس ووزير الدّفاع الأسبق أفيغدور ليبرمان ونفتالي بينيت وحزب العمل الذين يُطالبون الحكومة بعملٍ أكثر جدّية باتجاه الجبهة مع لبنان.
– اختار نتنياهو تنفيذ عمليّة ذات طابعٍ أمنيّ. حتّى كتابة هذه السّطور لم يصدر أيّ بيانٍ رسميّ إسرائيليّ يتبنّى العمليّة، على عكس اغتيال القياديّ العسكريّ فؤاد شكر الذي سارعَ الإسرائيليّون إلى تبنّيه بشكلٍ رسميّ وعلنيّ بعد 10 دقائق من استهداف المبنى في حارة حريك.
– يُحاول نتنياهو أن يُوازنَ بين الموقفِ الأميركيّ الواضح برفضِ شنّ عمليّة عسكريّة واسعة ضدّ لبنان في الوقت الحاليّ، وبينَ المواقف الدّاخليّة المُنادية باتّخاذ إجراءات فاعلة.
بحسب معلومات “أساس”، حملَ المبعوث الأميركيّ آموس هوكستين رسالة أميركيّة واضحة إلى تل أبيب تُعبّر عن موقف الدّولة العميقة في واشنطن، وليسَ فقط الرّئيس جو بايدن. جوهرُ رسالة هوكستين كانَ تجديد رفض الولايات المتحدة أيّ خطوة عسكرية إسرائيليّة من شأنها تأجيج التّوتّر في الشّرق الأوسط وجرّ إيران لمواجهة مباشرة مع إسرائيل. فلجأ نتنياهو إلى تحرّكٍ أمنيّ لا يتخطّى الخطّوط الحمر الأميركيّة المُتعلّقة بالعمليّة العسكريّة.
وكانَ سبقَ رسالة هوكستين سحب بعض القطعات البحريّة الأميركيّة من المنطقة لئلّا يستغلّ نتنياهو وجودها للتحرّك ضدّ لبنان.
– لا يزال نتنياهو يوجّه الضّربات للحزبِ ومن خلفه إيران تحت سقفِ أنّهما لا يريدان الانخراط في حربٍ شاملة في المنطقة. ويستغلّ رئيس الوزراء الإسرائيليّ هذا الموقف في طهران وفي حارة حريك لتوجيه أقسى ضرباتٍ ممكنة.
– تأتي العمليّة في إطار تفعيل العمليّات الخاطفة خلف الحدود. إذ جاءَت بعد أيّامٍ قليلة من عمليّة مصياف في سوريا، التي قيلَ إنّها تضمّنت هجوماً جوّياً وعملية خاصّة برّية استهدفت منشأة لتصنيع الصّواريخ الدّقيقة تحت الأرض.
– لا يُمكن فصل العمليّة في لبنان عن عمليّة قصفِ تل أبيب بصاروخ بالستيّ تبنّته جماعة “الحوثي” اليمنيّة قبل أيّام قليلة. إذ إنّ عمليّة الحوثي كانت رسالة إيرانيّة لإسرائيل مُفادها أن لا فضاء محميٌّ في الحرب الواسعة. فجاءَت العمليّة الإسرائيليّة التي مهّدَ لها نتنياهو ببيان صادر عن جهاز الأمن الدّاخليّ “الشّاباك” اتّهمَ فيه الجهازُ الحزبَ بالعمل على محاولة اغتيال شخصيّة عسكريّة متقاعدة، في مشهدٍ مشابه لحادثة مجدل شمس التي أعقبها اغتيال فؤاد شكر. وهو ما يعني أنّ نتنياهو يُحاول أن يُغطّي أيّ عمليّة نوعيّة في لبنان بذريعةٍ أمام الأميركيين في الدّرجة الأولى.
إيران معنيّة بالرّدّ.. ولكن!
الجديد في الهجوم أنّ سفير إيران لدى لبنان مجتبى أماني كانَ من جملة الذين أُصيبوا بانفجار أجهزة “البيجر”. وقد نُقل السفير أماني إلى إيران لمتابعة العلاج، مع الإشارة إلى أنّ السفارة الإيرانية نفت الأنباء التي تحدثت غن فقدان أماني بصره جرّاء الإصابة.
في الإطار، يقول مصدرٌ أمنيّ عراقيّ مُطّلع على دوائر القرار في طهران إنّ إيران تعتبر إصابة سفيرها لدى لبنان اعتداء على سيادتها، وأنّ هذا الحساب سيُضاف إلى الحساب المفتوح منذ اغتيال رئيس المكتب السّياسيّ لحماس إسماعيل هنيّة في طهران.
لكنّ المصدر يعتقد أنّ إيران هي أوّل دولة معنيّة بشكلٍ مباشر بالحرب تُقدّم “أوراقها لليوم التّالي” بعد التغييرات الواسعة التي أعقبت وفاة الرّئيس إبراهيم رئيسي والوزير حسين أمير عبد اللهيان ووصول الإصلاحي مسعود بزشكيان إلى السّلطة ومعه وزير الخارجيّة الأسبق محمّد جواد ظريف وفريقه الدّبلوماسيّ الذي لا يُمانع الحوار مع الغرب.
كما أنّ كلام بزشكيان عن أنّ بلاده لا تعتبر أميركا عدوّاً، وقبله كلام المُرشد علي خامنئي عن “التّراجع التكتيكي” وعدم ممانعة الحوار مع واشنطن، قد يُضيفان حساب الاعتداء على السّفير مجتبى أماني إلى الحساب المفتوح بقضيّة اغتيال هنيّة، ومحاولة تحصيل المكتسبات السّياسيّة، خصوصاً بعد كلام المُرشّح للرّئاسة الأميركيّة دونالد ترامب تعقيباً على كلام بزشكيان عن أنّه سيسعى “إلى أن يكونَ ودوداً مع إيران لكنّها لا ينبغي لها أن تمتلِكَ سلاحاً نوويّاً”
هذا يعني أنّ إيران تجمعُ أوراقها ليسَ لليوم التّالي للحربِ في المنطقة، بل لليوم التالي للانتخابات الأميركيّة، إذ تطمح إلى أن تنالَ اتّفاقاً بشأن برنامجها النوويّ بمعزلٍ عمّن يفوز بالمنازلة بين ترامب الجمهوريّ ونائبة الرّئيس كامالا هاريس الدّيمقراطيّة.
يتوقّع المصدر أيضاً أن يُقدِمَ الحزب على ردّ غير مُتسرّعٍ، وذلك في إطار التوازن بين “محاولة الرّدع وعدم الانجرار نحوَ الحرب”، وهذا يحتاج إلى حسابات دقيقة أكثر من الرّد على اغتيال شُكر نظراً لحجم الاختراق الذي تبيّنَ أنّ الحزبَ تعرّضَ له على أكثر من صعيد وأكثر من مجال.