لو كان الحريري الأبّ بيننا!

56

بقلم د. ابراهيم العرب

بدأ ظهور الراحل الكبير الرئيس الشهيد رفيق الحريري، على ساحة الأحداث عام 1982 من الباب الاقتصادي، حيث كان يتذكره اللبنانيون كفاعل خير، وضع إمكاناته بتصرف الدولة، وساهم في إزالة الآثار الناجمة عن الاجتياح الإسرائيلي للبنان خلال نفس العام.

وعام 1989، أسهم رفيق الحريري، في عقد مؤتمر الطائف بالسعودية، الذي وضع حدًا للحرب الأهلية اللبنانية؛ وكرّس الاتفاق، معادلة اقتسام السلطة على أساس العيش المشترك والتضامن الوطني، وتوزيع المناصب الرئيسية بين المكوّنات الأساسية الثلاثة في البلاد، المسيحيين والسنة والشيعة. كما ترأس رفيق الحريري حكومات لبنان لخمس دورات خلال فترتين 1992-1998، ثم 2000-2004، مقدمًا استقالته بتاريخ 20 تشرين الأول 2004.

وفي غياب الحريري الأبّ عن المشهد السياسي، لا تزال حادثة اغتياله تأخذ حيزًا واسعًا في المشهد الداخلي اللبناني بشكل خاص والعربي بشكل عام؛ حيث خلق اغتيال الحريري، أزمة سياسية في لبنان بين مختلف الأحزاب، لاسيما وأن الحادثة وقعت في فترة صعبة.

واليوم، فإن شوارع العاصمة بيروت الأحب على قلبه، لا تزال تتذكره على طريقتها الخاصة. فلبنان عمومًا حزين، وبيروت خصوصًا لم تخرج بعد من هول الصدمة، والخسارة الجسيمة للرئيس الذي عمّر وبنى وعلّم، وأرجع المجد والعزّ للبنان الأخضر، بعد حِقْبَة الحرب الأهلية الأليمة.

فرفيق الحريري، مع حفظ الألقاب، رفع رأس الشعب اللبناني أمام العالم بأسره، وفي زمانه كانت أيام اللبنانيين أيام عز، لا أيام بؤس وشقاء كتلك التي نعيشها اليوم. وإذ نستذكر أعماله الخيرية، فلا يسعنا أن نصفها بأسطر معدودة، إنما أن نضيء على مسألة أنها عمّت جميع الطوائف، فأحبته على أعماله، كإدخاله المرضى إلى المستشفيات والأطفال المدارس والجامعات، وتشيّيده للمطار المرموق والمدينة الرياضية ومجمّع الجامعة اللبنانية الوطنية. أما بعد اغتياله، فالبلاد انهارت وتقوقعت، لذا نترحم عليه يوميًا، وعلى روحه الطيّبة، وابتسامته التي كانت تزيّن طريق الجديدة ورأس بيروت وأرجاء المعمورة، وعلى عصره الذي غابت فيها الطائفية لأنه كان مقصدًا لكل الناس، من مختلف الانتماءات والمشارب السياسية.

كما نستذكر أنه كان دومًا أبًا للفقير، وأبًا للجميع، ولا أحد غيره يستحق هذا اللقب، لأننا عشنا في عهده بهناء ورفاهية، وعزّ وكرامة. وإذا ما قارنّا لبنان ما قبل وما بعد اغتيال الحريري الأبّ، نرى أن البلاد في زمانه كانت مقصدًا للسيّاح العرب والخليجيين، وحتى الأجانب، واقتصادها كان متيناً، وليرتها مزدهرة، أما اليوم فالناس للأسف جائعون.

ولا نغالي إن قلنا أن الحريري الأبّ جعلنا نعيش أيام عزٍّ وكرامة، ولو كان بيننا اليوم لاختلفت أمور كثيرة، فالطائفة السنّية تأذّت بشدّة بعد رحيله، ومن ثم تأذّت أكثر بعد تعليق نجله الشيخ سعد عمله السياسي وانتقاله للعيش في الخارج. ولو كانت يد الحريري الأبّ ما تزال تعمّر وتبني وتصنع الرجال الرجال، لكان الوضع مختلفًا كليًا، فيا ليتك يا شيخ رفيق لم تغادرنا باكرًا.

ومن جهتي، فإن غياب الحريري الأب ترك في نفسي فراغًا كبيرًا، تمامًا كما ترك في نفوس جميع اللبنانيين والأشقاء العرب. أما اليوم فنحن بحاجة إلى نجل الشهيد، الشيخ سعد، ولعودته إلى وطنه، خصوصًا في ظلّ هذه الأزمات المصيرية التي نواجهها من كل حدبٍ وصوب، فلا أحد قادر على إنقاذنا غيره، بسبب حكمته، ولأننا لم نكن لنصل إلى ما نحن عليه اليوم لو لم يعلّق الشيخ سعد عمله السياسي أو يرحل والده الشيخ رفيق؛ فالشيخين رفيق وسعد ضحّيا بالكثير من أجل لبنان، فيمَا البعض من الحكام يأبى أن يضحّي بشيء إلا  لأجل مصالحه الضيقة.

ومن المؤكد، أن أحدًا لن ينسى بصمة وتركة الشهيد الحريري الأب، في النهضة العمرانية العظيمة بلبنان، لاسيما بعد انتهاء الحرب الأهلية؛ ولن ينسى أيضاً العلامات البارزة لتلك النهضة، كإعادة إعمار وتأهيل منطقة وَسَط بيروت التجارية ومرافقها الحيوية؛ وكذلك مساعدته ومساندته للشعب اللبناني في تحسين ظروفه المعيشية، وإنجازاته في دعم الجمعيات الأهلية، وفي الإتيان بالاستثمارات الخليجية والتمويل الأجنبي الاقتصادي.

باختصار، وفّر الراحل الكبير، وفقيد الوطن الغالي، فرصًا تعليمية لأكثر من 36 ألف لبناني للدراسة خارج البلاد، و120 ألف منحة تعليمية للفقراء في الداخل، وأكثرها في الجامعة الأميركية في بيروت، كما حرص على تطوير العديد من المدارس، وأنشأ جامعة الحريري الكندية عام 1999. وإذا ما أردنا إبراز أهم إنجازات الحريري الأب وجوانب شخصيته المميزة، فيمكننا تلخيصها كالتالي:

تأثير الحريري الأب في مجال التعليم العالي

   لم يكن تأثير رفيق الحريري مقتصرًا على البنية التحتية والخدمات الاجتماعية فحسب، بل امتدّ ليشمل قطاع التعليم العالي. فقد أنشأ الحريري جامعة الحريري الكندية عام 1999، وهي مؤسسة تعليمية تسعى لتوفير تعليم عالي الجودة للشباب اللبناني. ولم يكن هذا المشروع مجرد جامعة، بل كان جزءًا من رؤية أوسع لإعداد جيلٍ جديدٍ من القادة والمبدعين القادرين على دفع لبنان نحو مستقبل مشرق.

دور الحريري الأب في تعزيز الوحدة الوطنية

   لقد كان الشهيد الرئيس رفيق الحريري مؤمنًا بوحدة لبنان وسعى جاهدًا لتعزيز التضامن بين مختلف مكونات المجتمع اللبناني. عمله الدؤوب لإزالة الحواجز الطائفية وتعزيز التفاهم بين الطوائف المختلفة، أسهم بشكل كبير في تحقيق الاستقرار الوطني بعد سنوات من الحرب الأهلية. كان يؤمن بأن لبنان يجب أن يكون وطنًا للجميع، بغض النظر عن الانتماء الديني أو السياسي.

رؤية الحريري الأب لإصلاح النظام السياسي

   رغم نجاحاته العديدة، كان الشهيد الرئيس رفيق الحريري واعيًا بأن لبنان بحاجة إلى إصلاحات سياسية جذرية لضمان استقراره على المدى الطويل. وكان يدعو دائمًا إلى تعزيز مؤسسات الدولة وتقوية حكم القانون، كما كان يركز على ضرورة التخلص من الفساد الذي كان يعوق تقدم البلاد. كانت رؤيته قائمة على بناء دولة قوية قادرة على مواجهة التحديات وتلبية تطلعات مواطنيها.

موقف الحريري الأب من القضايا العربية والدولية

   لم يكن الشهيد الرئيس رفيق الحريري مجرد زعيم لبناني، بل كان أيضًا رجل دولة دَوْليّ، يمتلك رؤية شاملة للقضايا العربية والدولية. كان دائمًا يقف إلى جانب القضايا العادلة في العالم العربي، وخاصة القضية الفلسطينية، وكان يعتبر أن استقرار لبنان مرتبط بشكل وثيق بالأمن والاستقرار في المنطقة. كما سعى الحريري لبناء جسور بين لبنان والدول العربية، وكان يدرك أهمية التعاون العربي في مواجهة التحدّيات المشتركة.

الإرث الثقافي للحريري الأب

   لم يكن الشهيد الرئيس رفيق الحريري مجرد سياسي أو رجل أعمال، بل كان أيضًا راعيًا للفنون والثقافة في لبنان. وكان يؤمن بأن الثقافة هي ركيزة أساسية لهوية لبنان، وسعى لدعم المشاريع الثقافية والفنية، سواء من خلال تمويلها أو من خلال تشجيع المبدعين اللبنانيين. وكان يرى في الثقافة وسيلة لتعزيز الوحدة الوطنية وإبراز الوجه الحضاري للبنان على الساحة الدولية.

من جهة أخرى، فقد سعى نجل الشهيد، الشيخ سعد الحريري من بعده، للمضي قدمًا بمسيرة والده بعد رحيله، وذلك فور تبوئه رئاسة الوزراء، وأصرّ على اتباع نهج وخط وتوجهات هذا الراحل الكبير، إلا أنه رغم نجاحه في ميادين عديدة، واجه عقبات ومطبّات وعراقيل وظروف إقليمية صعبة، قوّضت عمله السياسي ودفعته للمغادرة ريثما تتحسن الظروف المحيطة بالبلد.

ومنذ غياب الرئيس الحريري الابن، ونحن نعيش أزمة اقتصادية طاحنة هي الأسوأ منذ انتهاء الحرب الأهلية، وانهيارات مالية متتالية، وغلاء فاحش، وتفاقم أزمات معيشية واجتماعية، وسرقة إيداعات في البنوك، ليزداد الوضع سوءًا مع الوقت، ونصبح اليوم على صراع مفتوح مع العدو الإسرائيلي الغاشم.

وختامًا، فإننا ندعو الشيخ سعد الحريري، أطال الله في عمره، لزيادة جهوده باتجاه العودة عن تعليق عمله السياسي، لأن العمل الاجتماعي والخيري الكبير الذي يقوم به في لبنان عبر مقربين، سواء السيد أحمد هاشمية أو الحاج جهاد العرب أو غيرهم، غير كافٍ وحده لإيقاف لبنان مجددًا على قدميه.

ولن ننسى يا شيخ سعد أنك أنت الأساس، ولذلك نحن بانتظارك لتستكمل من جديد مسيرة الوالد الراحل، ولتحمي البلد من كل الأخطار. فأنت كما والدك الرئيس الشيخ رفيق، بالقلب باقٍ، وحضورك اليوم سوف يكون أقوى بكثير من قبل لتحقيق التوازن الوطني ولملء الفراغ في الساحة السنية؛ ورحم الله والدك الشهيد الشيخ رفيق ورفاقه الأبرار الميامين، لاسيما الحاج يحي العرب (أبو طارق)، وأسكنهم فسيح جناته، والفردوس الأعلى بإذنه تعالى، مع الأنبياء وسائر الشهداء والصديقين، وحسن أولئك رفيقَا.

د. ابراهيم العرب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.