لماذا تقرّر تعيين الشّرع رئيساً؟

0

بقلم محمد قواص

«أساس ميديا»

على نحو سريع، فهم أحمد الشرع الأساسات العميقة التي تستند إليها الدول المؤثّرة والوازنة في نظرتها نحو سوريا ونحو دورها المستقبلي. وقد بنى على خُلاصات صحيحة ودقيقة ساهمت في تغيير صورته، وفي جلوسه السريع على الكرسي الأوّل في دمشق.

 احتاجت الإدارة الانتقالية في سوريا إلى 52 يوماً، منذ سقوط نظام بشّار الأسد، حتى تعلن تعيين أحمد الشرع رئيساً للبلاد. واحتاج صدور الأمر إلى المرور بمواعيد متلاحقة، ومكثّفة، مع وفود عربية ودولية زارت دمشق، وأخرى سورية زارت بعض عواصم المنطقة. قرأت دمشق كلّ البيانات والتصريحات والمواقف، وغاصت بين سطورها، وأصغت إلى كلّ همس وإشارة ونصح يدلّها على خرائط الطريق.

احتاجت أيضاً إلى الانخراط في تماسٍّ مباشر مع معضلات سوريا وأزماتها في الأمن والوقاية من “ثورة مضادّة”، لكن أيضا في الاقتصاد والتنمية والعيش اليومي الكريم. راقبت ردود فعل الحانقين، وتأمّلت خوف الطوائف والمكوّنات، واطّلعت على حال المتحفّظين على الطابع الإسلامويّ للإدارة المنتقدين لاحتماله على منظومة العيش في البلاد. ولا شكّ أنّها اطّلعت من دون مفاجأة على ولادة لوائح تطالب بـ “جمهورية أفلاطون” وبدولة عصرية ديمقراطية تسود فيها الحرّيات وتشمل كلّ التمثيل الاجتماعي السوري.

غير أنّ من يراقب صخب الاعتراض ورواج مواسم التشكُّك، في الداخل ومن الخارج، يلاحظ هدوءاً واستيعاباً يمارسه الشرع وفريقه. لا غضب ولا انفعال. لا ردّ لائم على عتب بيتي، ولا ردود متشنّجة على رسائل، ومنها شديد القسوة، من الخارج. بدا أنّ الشرع حصّن نفسه وإدارته بثقافة الحكمة والهدوء، وأجاد انتقاء الكلمات وحرفة التعبير الحسن. وفيما جاءه الإعلام الدولي ثمّ العربي حاملاً أسئلة العواصم أكثر من أسئلة الصحافة، قدّم الشرع أجوبة محشوّة برسائل صحيحة خلت من الشوائب، وكأنّها نصوص حاضرة مسبقاً.

بعد ورشة مكثّفة انخرط فيها الشرع داخل ملفّات الأمن والسياسة والعلاقة مع العالم، وبعد الإلمام بدقّة بواقع سوريا وحقائق معضلاتها، استنتج لائحة أولويّات تسبق السجالات بشأن شكل الدولة ونصوص الدستور وهويّة النظام الجديد. وبدا أنّ الرجل، مدعوماً بمساحات احتضان عربي ودولي لا تخطئها عين، يمشي وفق مسار تفرضه العوامل التالية:

  • المشكلة الأولى والأهمّ هي اقتصادية شديدة الارتباط بموجودات الدولة من العملة الصعبة، وترهّل مواردها، وشلل الدورة الإنتاجية، وهزال البنى التحتية، وارتفاع نسب البطالة من دون أيّ أفق لإنتاج فرص عمل.
  • البوّابة الأولى للخروج من هذا النفق تكمن في إعادة الثقة، لا سيما من قبل مجتمع الأعمال السوري والعربي والدولي، بالاقتصاد السوري وتوفير قوانين مشجّعة لأنشطة الإنتاج وحركة رؤوس الأموال، وإعادة بناء بنى تحتية مناسبة، وتأهيل القوى العاملة لمواكبة عصرنة اقتصاد كانت تتحكّم به عقليّة المافيا وأدواتها.
  • الطريق الأولى لتحرير اقتصاد البلد هي إعادة اتّصاله بالدائرة الاقتصادية والماليّة الدولية، وهو ما يحتّم منطقياً العمل على رفع كلّ العقوبات الاقتصادية الدولية عن سوريا، وتبييض صفحة مصارفها ومؤسّساتها النقدية والمالية وسمعة الترسانة القانونية المكافحة للفساد وشبكات تبييض الأموال.
  • المعبر الأوّل لرفع العقوبات هو تخليص البلد من سياسات حكَمته لعقود، وإعادة تقديمه بالصورة والقواعد والمعايير التي تؤهّله لعضوية فاعلة تحظى بحواضن، لا سيما من قبل الحواضن العربية والإسلامية، والتوقّف عن ممارسة الابتزاز في تقديم البلد حاضناً لمصادر خطر على الدول القريبة والبعيدة.

بدا أنّ الشرع لم يكن وحيداً في هذا العالم. استفاد من لحظة تاريخية دولية أجمع فيها العالم، على نحو نادر منذ اندلاع الصراع عام 2011، على ضرورة إنهاء نظام بشّار الأسد. واستفاد من الاحتضان التركي – السعودي السريع والواسع للحصول على سقف إقليمي صلب له امتداداته صوب العواصم الكبرى شرقاً وغرباً. وحصل أيضاً من ذلك السقف الراعي على وصايا ونصائح بالخطوات التي يجب أن يلتزم بها لعبور حقل ألغام هذا العالم والتفطّن إلى أبجديّات مصالحه.

استبق ردود فعل العالم قبل “سقوط دمشق”، فأسمع قناة CNN الأميركية مبادئ عامّة لسوريا المستقبل اعتُبرت مغايرة تماماً لما كان منتظراً من أبي محمّد الجولاني وخلفيّاته آنذاك. ومع ذلك تدفّقت، بعد سقوط النظام، لوائح السلوك المطلوبة في بيانات الدائرة العربية (في العقبة) والاتّحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ومجلس الأمن، وجاءته الوفود حاملة مطالب وشروطاً، أجاد الرجل قراءة ما بين سطورها، فأزال عنها القشور وراح يتعامل مع لبّ أولويّاتها التالية:

  • يريد العالم زوال الوجود الإيراني في سوريا نهائياً، وهو هدف تجتمع عليه كلّ العواصم القريبة والبعيدة، ويظهر في الخطاب الرسمي للتحوّل السوري، الذي يفتح ذراعيه لعواصم الدنيا غير مستعجل في فتح أبوابه أمام طهران.
  • يريد هذا العالم استقراراً أمنيّاً في سوريا لا يسمح بأن تكون ملاذاً للإرهاب أو لأيّ جماعات مهدّدة للعالم القريب والبعيد، ولا تكون مصدراً للإجرام ومنتجاً ومصدّراً للمخدّرات ومزعزعاً لاستقرار المنطقة. ومن أبجديّات هذا الاستقرار مواكبة خارجية لقدرة النظام الجديد على ضبط الوضع الأمنيّ، واحتواء أعمال التمرّد، ومنع التسلّح وجعله بيد الدولة وحدها.
  • في ثالثة الأولويّات، وليست أولاها، وهذه مفارقة تجدر ملاحظة ترتيبها، أن يقوم في سوريا حكم “مقبول” يقدّم واجهة حكم تمثّل مكوّنات الشعب السوري. واللافت أنّ العالم لم يفرض شكلاً حصرياً لنظام الحكم، ولم يشترط “الديمقراطية” بالمعنى الغربي لها، بل منظومة حكم تمثّل السوريين وتحترم معايير “مقبولة” يمكن احتضانها من قبل المجتمع الدولي الراهن.

وفق أولويّات البلد الداهمة، وأولويّات عربية ودولية تُراد من سوريا، فهم الشرع وفريقه أنّ الساعة قد أينعت للانتقال إلى مرحلة انتقالية جديدة بات البلد والعالم الحاضن يحتاج إليها. أصدرت دمشق قرارات تنهي هياكل ما هو سابق وتعد بأجسام، منها تشريعي متعدّد المكوّنات، وتدابير لما هو لاحق، وتدشّن مرحلة جديدة تحتاج سوريا إلى أن يقودها الشرع رئيساً ويقود مساراتها. وإن يقبل العالم بقرارات دمشق ويتعايش معها وربّما يرعاها، فترسل العواصم برقيّات تهنئة، فلن يقفل نقاش السوريين بشأن “المدينة الفاضلة” التي يريدونها لنظام بلدهم، حتى لو أنّ في الأمر ما لا يتّسق مع موازين القوى ولا تعترف به “لعبة الأمم”.

محمد قواص

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.