لبنان لم يَعُدْ صندوق بريد…
كتب عوني الكعكي:
اعتاد لبنان ومنذ أكثر من ستين عاماً على التعاطي مع القضايا الوطنية المصيرية باستخفاف كبير… وكأنّ لا علاقة له فيها أو لا دخل له بكل ما يحصل… وكأنه ينتظر حدثاً ما، أو أمراً ما، أو توجيهاً معيناً.
ولأعُد بالذاكرة الى عام 1969 وتحديداً في الثالث من تشرين الثاني (نوفمبر) تاريخ توقيع «اتفاق القاهرة» لغرض تنظيم الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان، إذ قام الرئيس اللبناني آنذاك شارل حلو، بإرسال وفد لبناني برئاسة قائد الجيش إميل البستاني الى القاهرة للتحادث والتفاوض مع ياسر عرفات وتحت إشراف وزير الدفاع المصري محمد فوزي، ووزير الخارجية المصري محمود رياض. هذا الاتفاق الذي شرّع العمل الفدائي الفلسطيني من لبنان ونظم العلاقة ما بين السلطة اللبنانية والمنظمات الفدائية.
وكأنّ الهدف كان يرمي الى تحرير فلسطين من لبنان. وبحجة ذلك… تحوّل الجنوب اللبناني الى محور حرب دائمة بين المنظمات الفدائية ودولة العدو الإسرائيلي… وبدأ الجنوب اللبناني يدفع أثماناً غالية… لحساب القضية الفلسطينية. واستمر الصراع على أرض الجنوب… وصولاً الى العام 1982 يوم اجتاحت «إسرائيل» لبنان وصولاً الى بيروت التي حوصرت وصمدت مائة يوم.. والتي تحملت قصفاً هائلاً من البوارج والطائرات والمدافع الإسرائيلية من البحر والجو، وحتى من القوات الإسرائيلية التي كانت تحاصر قصر بعبدا. واحتلت بيروت، وكانت أول عاصمة عربية تحتلها الدولة العبرية.
وانتهت حرب 1982 بخروج منظمة التحرير… في حين ظلّ الجيش الإسرائيلي يحتل أراضي لبنانية، بعد انسحابه من بعض الأراضي…
وسنحت الفرصة للجهورية الإسلامية في إيران، فعمدت الى إنشاء حزب الله، الذي كان بحاجة الى المال والسلاح لمقارعة العدو الإسرائيلي. وتكفّلت إيران بذلك كله… حتى بتدريب عناصر الحزب ومدّه بما يحتاج إليه لوجستياً وعسكرياً.
ومنذ ذلك الوقت ولبنان يدفع ضريبة مشروع ولاية الفقيه، رغم أن لبنان وبواسطة المقاومة استطاع تحرير لبنان من العدو الإسرائيلي، وفي العام 2000 انسحبت «إسرائيل» من دون قيد وشرط، باستثناء «مسمار جحا» الذي أبقته في مزارع شبعا وقسم من الغجر وتلال كفرشوبا.
وانتقلنا الى العام 2006، يوم بدأت إسرائيل عدوانها إثر عملية أسر جنديين من جيشها يوم 12 تموز (يوليو)، وربما كان هجومها ثأراً لهزيمتها وعملية إعادة اعتبار لجيشها. يومذاك أعلنت إسرائيل أهدافها من حرب الـ2006:
أولاً: تدمير حزب الله ونزع سلاحه بما يسهّل عملية انتقال لبنان كلياً الى القبضة الأميركية، وتحرير يد إسرائيل بعد تخليصها من تهديد صواريخ المقاومة.
ثانياً: تحرير الأسرى الجنود الإسرائيليين بعد رفض أي عملية تبادل مع الحزب.
ثالثاً: تطبيق القرار 1559 بما فيه نشر الدولة سيطرتها على الجنوب، ونشر الجيش على الحدود في ضيعه تجعل منه حرساً للحدود مع إسرائيل.
رابعاً: الهدف الحقيقي استعادة قدرة الردع الإسرائيلية بعدما تآكلت منذ العام 2000.
خامساً: الإمساك بالقرار والسيطرة على دول الشرق الأوسط، التي كانت خارج بيت الطاعة.
سادساً: تقسيم الدول الشرق أوسطية الكبرى الى دول طائفية أو عرقية صغيرة، لا تملك مقومات الدولة القادرة على حماية ذاتها أو الاستمرار من غير دعم خارجي.
وبعد 33 يوماً على الحرب استخلصت أميركا وإسرائيل ان الهزيمة العسكرية واقعة لا محالة على إسرائيل، ولا ينقذها إلاّ الحل السياسي. لكن كانت نتيجة هذه الحرب التي انتهت بالقرار 1701 الذي يطلب من الدولة اللبنانية فرض سيطرتها على الأراضي اللبنانية وحصر السلاح بيد الدولة.. ولكن كان ثمن هذه الحرب وبالاً على لبنان، وهنا أتذكر ما قاله الشهيد حسن نصرالله يومذاك: «لو كنت أعلم»، أي أنه كان يمتنع عن خطف الأسيرين الإسرائيليين.
وأعود الى لبناننا اليوم لأقول:
بعد سقوط نظام بشار الأسد وفراره الى روسيا في مدّة قصيرة لم يكن أحد يتصورها.. هذا النظام الذي كان «ملتحماً» بمشروع ولاية الفقيه، والذي كان يشكل طرق وإمداد حزب الله بالأموال والسلاح والرجال والعتاد… وبعد حرب مساندة غزة وعملية «طوفان الأقصى» في 7 تشرين الثاني (أكتوبر) 2023… حرب المساندة هذه التي أعلنها شهيد فلسطين الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في 8 تشرين الثاني (اكتوبر)، أي في اليوم الثاني لعملية طوفان الأقصى.
وبعد شراسة الردّ الإسرائيلي واستعماله التكنولوجيا المتطورة وعمليات التجسّس، وإقدامه على تفجير «البيجر» واللاسلكي، وقتله أمين عام الحزب وخليفته السيد هاشم صفي الدين، وقادة الصف الأول من عسكريين وخبراء وسياسيين.. تغيّرت الأحوال فشحّت المساعدات عن حزب الله، وفقد معظم قيادييه، فكان الحل في توقيع اتفاق وقف إطلاق النار بموافقة حزب الله والحكومة اللبنانية وبمبادرة طيّبة من دولة رئيس مجلس النواب الأستاذ نبيه بري. هذا الاتفاق الذي يقضي بسحب حزب الله من الجنوب.. وتسليم سلاحه للجيش اللبناني.
ومما عزّز هذا الاتجاه، ما جاء في خطاب القسم لفخامة الرئيس جوزاف عون بعد انتخابه، وما جاء في تصريح الرئيس نواف سلام منذ تكليفه، بحصر السلاح بيد الدولة اللبنانية فقط، وقواها الأمنية الشرعية، وبسط كامل سلطتها على تراب لبنان كله.
وهنا لا بد من العودة الى الحديث الذي أدلى به رئيس الحكومة القاضي نواف سلام الى إحدى المحطات العربية إذ قال: بحصرية السلاح بيد الدولة… وتابع: “لم يعد لبنان صندوق بريد”.
بالفعل… مع كل التطورات التي ذكرتها… ومع هذا العهد الجديد… أرى أن لبنان لم يَعُد صندوق بريد كما كان من قبل…
إنّ لبنان اليوم تغيّر… فصار فاعلاً وفعّالاً، يعي ما يريد، وما يعود عليه بالخير والأمن والطمأنينة والسلام.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.