لبنان على أعتاب التحوّل: حكومة نواف سلام ورهانات الإصلاح الشامل
المحامي أسامة العرب
في ظلّ أزمات اقتصادية واجتماعية طاحنة، يدخل لبنان مرحلة جديدة مع حكومة يُعتقد أنها قد تشكّل نقلة نوعية في إدارة الشأن العام، بقيادة رئيس مجلس الوزراء المُكلّف نواف سلام. تأتي هذه الحكومة في وقت يُوصف بأنه “الأصعب” في تاريخ البلاد، حيث تتداخل الأزمات المالية مع انهيار العملة وتردّي الخدمات الأساسية، مما يفرض على النخبة الوزارية مهمّة شبه مستحيلة: إعادة بناء الثقة الداخلية والخارجية عبر إصلاحات جذرية تستجيب لطموحات الشارع ومتطلبات المجتمع الدولي.
الإطار القانوني لتشكيل الحكومة: خطوات نحو الشرعية
انطلق مسار تشكيل الحكومة وفق الآليات الدستورية، حيث صدرت ثلاثة مراسيم رئاسية متلازمة: بعد أن وقع رئيس الجمهورية مرسوم قبول استقالة حكومة الرئيس ميقاتي، ومرسوم تكليف الرئيس نواف سلام برئاسة مجلس الوزراء، إضافة إلى مرسوم تأليف الحكومة الجديدة الذي وُقع من الرئيسين عون وسلام معاً. وتُعدّ هذه الخطوات إيذانًا ببدء العدّ التنازلي لاختبار مصداقية الفريق الوزاري، الذي سيُقدّم بيانه الوزاري إلى مجلس النواب خلال 30 يومًا، على أن يخضع لنيل الثقة البرلمانية قبل ممارسة صلاحياته.
ويُتوقّع أن يُركّز البيان الوزاري على رؤيةٍ إصلاحية شاملة تُعبّر عن التزام الحكومة بمعالجة الملفات العالقة، بدءًا من الأزمة الاقتصادية وصولًا إلى إصلاح البنى التحتية ومكافحة الفساد، في محاولة لاستعادة ثقة الداخل والخارج.
محاور الإصلاح: بين الضغوط الداخلية وشروط الخارج
تواجه حكومة سلام تحدّيًا مزدوجًا: إرضاء الشارع اللبناني المُثقل بمعاناة يومية، والوفاء بشروط المُنظمات الدولية، لا سيما صندوق النقد الدولي، الذي يشترط لإطلاق المساعدات تنفيذ إصلاحات هيكلية تشمل:
- الإصلاح المالي والاقتصادي: إعادة هيكلة القطاع المصرفي، وإصلاح سياسة الدعم، وتبنّي قانونٍ جديد للرقابة المالية، وإطلاق خطة لإنقاذ العملة من الانهيار.
- مكافحة الفساد: تفعيل هيئات الرقابة مثل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وإصلاح القضاء لضمان استقلاليته، واسترداد الأموال المنهوبة.
- البنية التحتية: معالجة أزمات الكهرباء والمياه عبر مشاريع طويلة الأمد، كإنشاء السدود وتحسين شبكات التوزيع، وإعادة تأهيل قطاع النقل العام.
- الخدمات الاجتماعية: تعزيز شبكة الأمان الاجتماعي عبر دعم الرعاية الصحية للفئات الهشّة، وإصلاح نظام التقاعد، وإطلاق برامج دعم إسكاني.
لكن هذه الإصلاحات، رغم ضرورتها، تواجه عقبات سياسية، إذ أن تنفيذها يتطلب توافقًا داخليًا، وهو أمرٌ صعب في ظلّ التجاذبات بين القوى السياسية التي تختلف في رؤيتها لطبيعة الإصلاحات وأولوياتها.
قطاعات حيوية على طاولة الأولويات
- الصحة والبيئة
في ظلّ تدهور المستشفيات وارتفاع كلفة الأدوية، يتطلّب القطاع الصحي دعمًا عاجلًا، من خلال إعادة هيكلة النظام الصحي وضمان استيراد الأدوية الأساسية. أما البيئة، فتحتاج إلى خططٍ لمكافحة التلوث وإدارة النفايات، لا سيما في ظلّ فشل الحلول السابقة وارتفاع معدلات التلوث البحري والهوائي.
- الطاقة والاتصالات
لا يمكن تعافي الاقتصاد دون حلّ أزمة الكهرباء المزمنة، التي تُكبّد الدولة خسائرَ بمليارات الدولارات سنويًا، ما يستدعي تنفيذ خطة مستدامة للطاقة تشمل تنويع مصادر الكهرباء وإشراك القطاع الخاص في الحلول. كما أن تحسين خدمات الإنترنت والاتصالات يُعتبر ضروريًا لجذب الاستثمارات وتعزيز الإنتاجية.
- الزراعة والصناعة
يُعدّ النهوض بهذين القطاعين من الحلول الاستراتيجية لتقليل الاعتماد على الاستيراد، ويحتاجان إلى سياسات داعمة، كخفض الضرائب، وتسهيل التصدير، واستغلال الموارد الطبيعية مثل النفط والغاز، ما قد يُعزّز الاستقلالية الاقتصادية للدولة.
اللامركزية الإدارية: نحو مشاركة أوسع
من أبرز المطالب الشعبية اعتماد اللامركزية الإدارية الموسّعة، التي تمنح المحافظات صلاحياتٍ أوسع في إدارة الموارد المحليّة، مما يُعزّز الكفاءة ويُقلّص البيروقراطية. ويعيد النهضَةَ إلى البلديات، عبر تمكينها من تنفيذ مشاريع تنموية مُوجّهة لاحتياجات كل منطقة.
لكن هذه الخطوة تواجه عقبات سياسية، إذ تخشى بعض الأطراف أن تؤدي إلى تعزيز الانقسامات المناطقية والطائفية، ما يتطلب آلية واضحة تضمن التوازن بين اللامركزية الإدارية والوحدة الوطنية.
التحديات: عقبات في طريق الإصلاح
رغم التفاؤل الحذر، تُواجه الحكومة عقبات جسيمة، أبرزها:
الانقسام السياسي: صعوبة تحقيق إجماعٍ وطني في ظلّ توازنات طائفية وسياسية هشّة.
الأزمة النقدية: استمرار انهيار الليرة اللبنانية وتراكم الديون الخارجية.
الضغط الشعبي: خشية أن تتحوّل الإصلاحات إلى إجراءات تقشّفية تزيد من معاناة المواطنين.
غياب الاستقرار الإقليمي: تأثير التوترات الإقليمية على الوضع الداخلي، لا سيما مع تصاعد الأزمات في المنطقة.
نحو شراكة وطنية ودولية
إن نجاح حكومة سلام مرهونٌ بتحقيق شرطين:
- توافق النخبة السياسية على أولوية الإنقاذ الوطني، وتجاوز الحسابات الحزبية الضيّقة لصالح مصلحة لبنان العليا.
- دعم المجتمع الدولي عبر استثماراتٍ ملموسة، خصوصًا من الدول المانحة وصندوق النقد الدولي، الذي يشترط تنفيذ الإصلاحات قبل الإفراج عن أي دعم مالي.
أما الشعب اللبناني، فينتظر خطواتٍ سريعة تُترجم الكلمات إلى أفعال، كاستعادة الودائع المصرفية، وتحسين الخدمات اليومية، وتخفيف الضغط المعيشي. فلبنان، برغم كلّ شيء، لا يزال يمتلك مقوّمات النهوض، شرط أن تُدار أزماته برؤيةٍ تتجاوز الحسابات السياسية الضيقة، وتضع المواطن في صلب الأولويات.
المحامي أسامة العرب
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.