كيف كانت سوريا.. وكيف نتمناها أن تكون؟
كتب عوني الكعكي:
منذ أيام وقع بين يديّ خبرٌ يروي حادثة تتحدّث عن الرئيس السوري الأسبق فارس الخوري، حين عُيّـن رئيساً لوزراء سوريا من 14 تشرين الأول 1944 الى الأول من تشرين الأول 1945 ومن تشرين الأول 1954 الى 13 شباط 1955.
ويُعَدّ منصب فارس الخوري كرئيس للوزراء أعلى منصب سياسي وصل إليه مسيحي سوري على الإطلاق.
وترجع شعبية خوري الانتخابية الى سياساته العلمانية والقومية الراسخة.
ووُصف الخوري بأنه عميد السياسة السورية، وأنه ذو دماغ جبار، كما عُدّ أكبر وأقدر مفكر في الشرق، وهو ضليع في القانون والاقتصاد السياسي والأدب، ومعروف بثقافته السكسونية.
ومجيء فارس الخوري الى رئاسة الوزارة في سوريا عام 1944، وهو المسيحي البروتستانتي، يشكّل سابقة في تاريخ البلاد… حيث أسندت السلطة التنفيذية الى رجل غير مسلم مما يدلّ على ما بلغته سوريا من نضج قومي.
وهنا، أؤكد أن شخصية خوري نادرة وفريدة في تاريخ المشرق العربي وسوريا على وجه الخصوص، وأنّ دراسة شخصيته هي دراسة للمستقبل، لنستخلص صورة سوريا المستقبلية على الأسس الدستورية التي بُني عليها فكره.
أعود لأقول إنّ اختيار فارس الخوري يدلّ بكل تأكيد، أنّ الشعب السوري شعب وطني… وهو ليس طائفياً، ولم يكن كذلك في يوم من الأيام.
شعب سوريا بكل فئاته، من مسلمين ومسيحيين لا يهمه إلاّ الوطن أولاً وأخيراً.
لا أقول هذا الكلام لمجرّد ألفاظ ارتضيتها… أو لأني منحاز الى الشعب السوري… لكن السمة الوطنية للشعب السوري لا يمكن لأحد إنكارها.
والشعب السوري لا يهمه طائفة الرئيس… بل إن همّه ينحصر في الرجل وصفاته وقدرته على تحقيق الأمن والطمأنينة والرفاهية للشعب، سواء كان مسلماً أم مسيحياً.
إنّ ما قرأته عن حكاية وردتني عن فارس الخوري تجعلني أتمنى أن تدرّس سيرة حياته كمثال للوطنية والإخلاص.
تقول الرواية أنّ الرئيس السوري فارس الخوري عام 1947، دخل الى مقرّ الأمم المتحدة بطربوشه الأحمر، وبزّته البيضاء الأنيقة، قبل موعد الاجتماع الذي طلبته سوريا من أجل رفع الانتداب الفرنسي عنها بدقائق.
اتجه الخوري الى مقعد المندوب الفرنسي لدى الأمم المتحدة، وجلس على الكرسي المخصّص لفرنسا.
وبدأ السفراء بالتوافد الى مقرّ الأمم المتحدة، بدون إخفاء دهشتهم من جلوس فارس، المعروف برجاحة عقله وسعة علمه وثقافته، في المقعد المخصص للمندوب الفرنسي، تاركاً المقعد المخصّص لسوريا فارغاً!!
دخل المندوب الفرنسي، ووجد الرئيس فارس الخوري يحتلّ مقعد فرنسا في الجلسة، فتوجّه إليه وأخبره أنّ هذا المقعد مخصّص لفرنسا، وأشار إليه الى مكان وجود مقعد سوريا مستدلاً عليه بعلم سوريا.
لكنّ فارس الخوري لم يحرّك ساكناً، بل بقي ينظر الى ساعته، واستمر المندوب الفرنسي في محاولة إفهام فارس الخوري بأنّ الكرسي المخصّص له في الجهة الأخرى، لكن الرئيس فارس الخوري استمرّ بالنظر الى ساعته والتحديق فيها.
بدأ صبر المندوب الفرنسي بالنفاد… واستخدم عبارات لاذعة، واهتاج… ولولا تدخّل سفراء الأمم المتحدة الأخرى بينه وبين عنق فارس لكان خنقه.
وعند الدقيقة الخامسة والعشرين، تنحنح فارس، ووضع ساعته في جيبه، ووقف بابتسامة عريضة تعلو شفتيه وقال للمندوب الفرنسي:
سعادة السفير… جلست على مقعدك لمدة خمس وعشرين دقيقة… فكدت تقتلني غضباً وحنقاً… وسوريا استحملت سفالتكم وسفالة جنودكم خمساً وعشرين سنة، وآن لها أن تستقل.
وفي هذه الجلسة نالت سوريا استقلالها عام 1947، وتمّ جلاء آخر جندي فرنسي عن أراضيها… وكان فارس الخوري رئيس وزراء سوريا عام 1944. وفي التاريخ نفسه، كان فارس الخوري وزيراً للأوقاف الإسلامية، وهو مسيحي، وعندما اعترض البعض، خرج نائب الكتلة الإسلامية في المجلس يومذاك عبدالحميد طبّاع ليتصدّى للمعترضين قائلاً:
إننا نؤمن بفارس الخوري المسيحي، ونأتمنه على أوقافنا أكثر مما نأتمن أنفسنا.
وهنا أذكّر أيضاً أن الجنرال غورو أعلن ذات يوم أن فرنسا جاءت الى سوريا لحماية مسيحيي الشرق. فما كان من فارس الخوري إلاّ أن قصد الجامع الأموي في يوم الجمعة، وصعد الى منبره وقال:
أنا كمسيحي، ومن على هذا المنبر أشهد ان لا إله إلاّ الله…
فأقبل عليه مصلّو الجامع الأموي وحملوه على الأكتاف، وخرجوا به الى أحياء دمشق القديمة، في مشهد وطني تذكرته دمشق طويلاً… وخرج أهالي دمشق المسيحيون يومذاك في تظاهرات حاشدة ملأت دمشق وهم يهتفون: لا إله إلاّ الله.
هذه هي سوريا… كانت… ونحن اليوم نتمنى أن نراها هكذا من جديد.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.