كيف دبّروا فتنة “الميلاد” السّوريّ؟
بقلم محمد قواص
«أساس ميديا»
ارتكبت إيران خطيئة كبرى بإعلانها الحرب ضدّ “سوريا الجديدة”. تراجعت وزارة الخارجية الإيرانية عن إعلانها السابق عن جهود لفتح السفارة الإيرانية في دمشق. قالت المتحدّثة باسم الوزارة إنّ ما أعلنته في هذا الشأن فُهِم خطأً. بدا أنّ أمر السعي إلى الوصل مع التحوّل السوري بعد إسقاط نظام بشّار الأسد، يتناقض مع وعيد وزير هذه الوزارة، عباس عراقتشي، بأنّ من “المبكر الحديث عن انتصارات” في سوريا، مختتماً تصريحه بما فهم أنّه نذير بأنّ “الآتي أعظم”.
لمن لم يفكّ شيفرة “تنمّر” عراقتشي على فرحة السوريين، فإنّ وزير هذه الوزارة الأسبق، والنائب الحالي للرئيس الإيراني للشؤون الاستراتيجية، محمد جواد ظريف، تحدّث بتشفٍّ عن حرب أهلية مقبلة في سوريا، يستدعي تجنّبها دوراً إيرانياً، من خلال ما قال إنّها مبادرة لحوار بين دول المنطقة يشمل الحكومة السورية الجديدة.
يقوم استشراف عراقتشي لتطوّرات مقبلة في سوريا، وتحذير ظريف من احتراب أهليّ سيصيبها، على قراءة المرشد الأعلى علي خامنئي الذي وعد بتدخّل “الشرفاء الغيورين” لإنهاء “الفوضى” في سوريا التي “تحرّكها أجندات أميركية-إسرائيلية”. ولئن يُجمع ساسة طهران الكبار على اعتبار حدث سوريا نكبةً كبرى وخسارة استراتيجية مفصليّة، فإنّ الوعد بتغيير الأمور سيكون بفعل فاعل، مصدره الجمهورية الإسلامية في إيران.
تتحمّل طهران مباشرة، حتى لو افترضنا جدلاً وسذاجةً أنّ في الأمر مصادفة قدريّة، المسؤولية عن الشغب الطائفي، في يوم عيد الميلاد، الذي طال اللاذقية وطرطوس وبانياس وجبلة وحمص ودمشق وريف حماة وغيرها. لم تخرج تلك التظاهرات بشكل عفوي انفعالي، بل تحرّكت بناء على أمر عمليات له أدواته ورعاته ومموّلوه.
كان مطلوباً أن تعلو معاناة “الأقلّيات” وعذاباتها بعد أسبوعين فقط من القضاء على نظام استبداد حكم البلد طوال 54 عاماً. وكان مطلوباً أن تنتقل صور الاحتجاجات “السلميّة” وتسافر في العالم استجداء لانقلاب على أولياء الأمر الجدد في دمشق. والأدهى أنّ الخشية على الأقلّيات تسرّبت من وعيد قادة طهران، لكنّها بدت واجهة أولى في كلّ البيانات والمواقف التي صدرت عن المجتمع الدولي.
لم يصدّقوا بعد التّطوّرات
يهمس لي أحد المصادر أنّه سمع في دمشق ممّن كانوا يعملون في مؤسّسات النظام الساقط وما يزالون في مناصبهم، تبرّماً من أحداث “عيد الميلاد” السوريّ الأوّل بعد التحرير، واصفين مرتكبيها بأنّهم شريحة لا يصدّقون التحوّل الكبير ولا يقبلون مرتبة المواطنين بعدما اعتبروا أنفسهم آلهة سوريا قبل ذلك.
سمعت همساً آخر يأخذ على “إدارة العمليات العسكرية” مروءة ونبلاً وخطاباً وطنيّاً جامعاً فهمته تلك الشرائح ضعفاً وجزعاً. يتحدّث آخرون عن أنّ نظام بشّار الأسد لم يسقط، بل هرب رئيسه وفرّ بعض قادته إلى الخارج، فيما الجسم الفاعل متوارٍ داخل البلد، متدثّر بحالة السماح تارة، و”التسويات” تارة أخرى، وجاهز للانقضاض على المُنجَز واستعادة أمجاد اندثرت.
قلاقل سوريا خلال الأيام الأخيرة هي من تداعيات زلزال لم يستيقظ منه حتى الآن السوريون، بل العالم أيضاً. في تاريخ التحوّلات التي جرت في بلدان العالم، لا سيما في أوروبا الشرقية في بداية التسعينيّات، وتلك العربية بعد عام 2011، حتى لا نذهب عميقاً في التاريخ، جولات من حمامات دم وفوضى كارثية وصلت إلى حدود المقتلة الأهليّة.
لم تكن سوريا، في ما تكتنزه من احتقان وأحقاد ذات جذور عتيقة بنى عليها نظام الأسد قواعد بقائه، وفي ما يشكّله مجتمعها من تعدّد وتنوّع في البيئات والجغرافيا والأمزجة والعشائر والأعراق والأديان والطوائف… إلّا ساحة منطقية للكارثة الأهليّة الكبرى. لكنّها، وكأنّه إعجاز إلهي، لم تحصل.
سقوط مدن من دون تجاوزات
تنبّهت “إدارة العمليات” لخطورة الأمر منذ اللحظات الأولى لبدء هجومها في 27 تشرين الثاني الماضي. بدا الترتيب معدّاً سلفاً، وفق توجيهات واضحة بالحلم والتسامح مع الأهالي، حتى إنّ هناك من أشار إلى أنّه لم يذكر التاريخ سقوط مدن كبرى مثل حلب وحمص ودمشق وغيرها، من دون تجاوزات وانتهاكات. بدا لاحقاً أنّ ما صدر عن أحمد الشرع، قائد الإدارة الحالية في سوريا، من أنّه “فتح لا انتقام”، هو قاعدة التزمت بها كلّ الفصائل، حتى بدت الظاهرة مفاجئة وخارج المألوف.
تعالج “الإدارة” العبث الداهم بأدوات جديدة. الشدّة والحزم مع “الفلول”، واستمرار الانفتاح والتواصل مع قادة المجتمعات ووجهائها. وللمفارقة، فإنّ تهديدات إيران ووعيدها بالعبث في سوريا حصّنت أهل الحلّ والربط في دمشق من حرج دولي للحسم وقطع دابر الفتنة في البلاد. بدا أنّ العواصم البعيدة والقريبة التي اشترطت حماية الأقلّيات مدخلاً للوصل والتواصل مع الشرع وفريقه، استنتجت مخالب لطهران في تخريب سلميّة التحوّل السوري وسلاسته.
استنتجت إيران بدورها أنّ “تبشيرها” أهل المحور بفوضى وحرب أهلية وتطوّرات مثيرة في سوريا، دونه وعي السوريين أنفسهم، وله بالمرصاد إرادة إقليمية دولية تتمدّد كلّ يوم لحماية هذا التحوّل ونصب مظلّة واسعة تصونه.
لن يكون سهلاً ردّ هجمات متوقّعة من المتضرّرين في الداخل والخارج من التحوّل السوري الكبير. يبدو البلد في سباق مع الزمن للدفع بالمرحلة الانتقالية وقيادة البلاد إلى مرحلة جديدة. تدفع تجربة العبث في الأيّام الأخيرة باتّجاه مزيد من الانفتاح على شركاء الداخل والخارج، ومزيد من توسيع مساحات المشاركة، ومدّ التحوّل ليطال كلّ شرائح المجتمع. صار مطلوباً إسقاط الحديث عن أغلبيّات وأقليّات وحشر الانقسام بين شريحة كبرى تطمح إلى آفاق مستقبل واعد، وشريحة ستصغر يوماً بعد آخر وستبقى تبكي على ماضٍ كئيب.
محمد قواص