فوضى النازحين في بيروت… وبركان ديمغرافيّ في طرابلس

46

بقلم سامر زريق

«أساس ميديا»

لم يعد بالإمكان التعامل مع ما يحصل في العاصمة بيروت من تجاوزات واعتداءات على الأملاك الخاصة والعامة على أنّها مجرّد حوادث فردية، وليس عملاً تخريبياً منظماً. فهل هناك من يحضّر لفوضى عارمة في بيروت؟ ومن هي الجهات التي تقف خلف ذلك؟

 لطالما كانت بيروت قبلة اللبنانيين والعرب، ويقف إرثها شاهداً على الدور الذي لعبته كـ”حاضنة” للهويّات المتناقضة، والحالمين بمستقبل أفضل، والمضطهدين وأبناء القهر والمعاناة من مختلف المشارب والأطياف. وعلى الرغم من الثمن الباهظ الذي دفعته غير مرّة، ووصل إلى حدّ تدميرها، فقد كانت دائماً تنبعث من رمادها لتعيد إنتاج نفسها ودورها التاريخي. وبالتالي النقاش حول فكرة استقبال النازحين من أبناء الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لا مكان له في قاموس بيروت، رمز المقاومة والصمود، ورمز التطوّر والرقيّ وحبّ الحياة في الوقت نفسه.

منذ اللحظة الأولى لاشتداد القصف الإسرائيلي، فتحت العاصمة مدارسها وشطآنها وساحاتها للنازحين. إلا أنّها شهدت اقتحامات لمبانٍ خاصة سرعان ما تحوّلت إلى موجة تتضخّم يوماً بعد آخر في الحمرا والروشة وعين المريسة، فشملت فنادق البريستول وهيلتون والدوحة سنتر وأبنية ومحلات في وسط بيروت. بعض الاقتحامات حصلت بقوّة العضلات وكثرة الأعداد، وبعضها الآخر بقوّة السلاح. حتى كورنيش بيروت البحري كان عرضة للاستباحة من قبل مجموعات أرادت تحويله إلى “أرخبيل” من العشوائيات المتناثرة والعربات والبسطات التي تمعن في تشويه صورة بيروت.

ما يبعث على الارتياب هو الخطاب التحريضي الذي شجّع على مثل هذه الأفعال لأشخاص معيّنين على يمين الممانعة اشتهروا بالاستعراض والغوغائية، بالتوازي مع خطاب شديد التشنّج للبطانة الإعلامية اللصيقة للممانعة. وبالتالي كان من البديهي أن يعيد البيارتة واللبنانيون استحضار مشهدية 7 أيار 2008، ولا سيما في ظلّ تركّز الاعتداءات على منشآت وأحياء بيروتية تحمل هوية سنّية، الأمر الذي أسهم في خلق مناخ من التهديد بفرض تغيير هويّاتي قسراً، إضافة إلى بروز مؤشّرات إلى انفجار صراع طبقي، فضلاً عن وضع فئة معيّنة في وجه المؤسسات الرسمية.

الرئيس بري يواجه

حتى لو كانت هذه الاعتداءات غير مدبّرة، فذلك لا يقلّل من خطورتها بعدما أظهرت محدودية تدخّل الحزب وحركة أمل لضبط الأوضاع، بما يرفع من احتمالية حصول مواجهات بين النازحين والمضيفين.

هذا ما يسعى رئيس مجلس النواب نبيه بري إلى تجنّبه عبر جهود مكثّفة لاحتواء كلّ التوتّرات على الأرض، والأهمّ إقناع الحزب، ومن خلفه إيران، بالمضيّ في المبادرة التي أعلنها مع رئيس الحكومة والزعيم الدرزي وليد جنبلاط، والتي قد تفضي إلى وقف إطلاق النار، بما يحدّ من تطوّر أزمة النزوح. فكلّما طالت هذه الأزمة وازدادت أعداد النازحين، ارتفعت احتمالات حصول توتّرات ومشاحنات، ليس فقط في بيروت، بل في مناطق أخرى.

طرابلس: قنبلة ديمغرافيّة

هنا تبرز مدينة طرابلس التي تعاني من ضغط ديمغرافي هائل يفوق قدراتها، ويجعلها أقرب إلى بركان ديمغرافي يتفاعل ببطء، ويمكن أن يرمي بحممه النارية في أيّ لحظة. فعدا عن آلاف النازحين من سكّان محافظتَي الجنوب والنبطية وضاحية بيروت الجنوبية، استقبلت طرابلس المئات من العوائل السورية التي نزحت من المناطق نفسها، والتي أضيفت إلى موجة سبقت التصعيد الإسرائيلي قدم نازحوها إلى طرابلس من العديد من البلدات والمناطق التي جرى ترحيلهم منها. وهذا ما يضاعف من الضغوط الحياتية في مدينة طرابلس وجوارها في ظلّ محدودية مواردها المالية وتراجع حضور القوى السياسية وعدد كبير من المنظّمات غير الحكومية لأسباب مالية أيضاً، وصعوبة نجاح المبادرات الفردية في تغطية هذه الفجوة.

يضاف إلى ما سبق النزوح الفلسطيني من المخيّمات، حيث تشير المعلومات والتقارير الإعلامية إلى موجة نزوح ضخمة في مخيّمات الرشيدية والبص والبرج الشمالي في الجنوب، ومخيّم برج البراجنة في الضاحية الجنوبية لبيروت. وتذهب التقديرات إلى تجاوز النازحين عتبة 90% من إجمالي قاطني هذه المخيّمات، أي ما يزيد على 100 ألف نسمة. جزء كبير منهم توجّه إلى مخيّمي البدّاوي، إحدى ضواحي طرابلس، ونهر البارد. وتأتي هذه الموجة من النزوح الفلسطيني لتفاقم من معاناة هذين المخيّمين.

بيد أنّ المؤشّر الأخطر هو تصريح رئيس الأمن العام الإسرائيلي “الشاباك” رونين بار، خلال جولة مع رئيس الأركان هرتسي هاليفي برفقة مجموعة من الصحافيين في الجانب اللبناني من الحدود، الذي أكّد فيه ملاحقة أعضاء حماس في لبنان. فمع أنّ إسرائيل تلاحق قيادات حماس وكوادرها في لبنان منذ بدء الحرب، إلا أنّ التصعيد العنيف في الأسبوعين الأخيرين يجعل مخيّمي البدّاوي والبارد، وحتى مدينة طرابلس، في دائرة الخطر، ولا سيما مع استهداف إسرائيل قيادياً من كتائب القسام في مخيّم البدّاوي قبل أيام.

تشير المعلومات إلى أنّ كوادر القسام قرّرت الابتعاد عن المدنيين والأماكن المكتظّة لحمايتهم من الاستهداف الإسرائيلي. لكنّ ذلك يضعهم أمام إشكالية أخرى: أين يمكنهم الذهاب في ظلّ محدودية الخيارات المتاحة وخسارة لبنان نحو ربع أراضيه، حسب تقديرات الأمم المتحدة، وذلك نتيجة الإنذارات الإسرائيلية التي توسّعت رقعتها جغرافيّاً؟

قد يفضي تعرُّض طرابلس لضربات إسرائيلية إلى تفجير أزمة نزوح هائلة يصعب التعامل معها. لذا يبقى التعويل على نجاح المساعي السياسية المحلّية والدولية في إيقاف هذه الحرب، قبل أن ينزلق لبنان نحو سيناريوهات قاتمة تلوح نذرها في الأفق.

سامر زريق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.