فريدمان لفريق ترامب: ما حدث في سوريا لن يبقى في سوريا
إيمان شمص
«أساس ميديا»
تشكّل سوريا، في رأي الكاتب والمحلّل السياسي الأميركي توماس فريدمان، نموذجاً مصغّراً لمنطقة الشرق الأوسط بأكمله، وحجر الزاوية فيها. وبالتالي ستكون لانهيارها تأثيرات في كلّ الاتجاهات. ومهما حدث في سوريا فلن يبقى في سوريا.
في تقويمه لعدم الاستقرار المحتمل في بلدان الشرق الأوسط، يعتمد فريدمان على قاعدة بسيطة، وهي أنّ هناك دولاً تنهار ودولاً تنفجر، أي أنّ هناك دولاً عندما تنهار فيها السيطرة المركزية تسقط الأعمدة المدمّرة داخل حدودها، وثمّة دولاً عندما تنهار فيها السيطرة المركزية تمتدّ دائرة انفجار كلّ الشظايا السياسية إلى مسافات بعيدة.
يرى أنّه “لا توجد دولة في الشرق الأوسط تنفجر أكثر من سوريا. مهما حدث في سوريا فلن يبقى في سوريا. وذلك لأنّها حجر الزاوية والنموذج المصغّر للشرق الأوسط بأكمله. ولأنّها حجر الزاوية، ستنتشر التأثيرات في كلّ الاتجاهات عند انهيارها. ولأنّها نموذج مصغّر، إذ تضمّ سنّة وشيعة وعلويّين وأكراداً ومسيحيّين ودروزاً، ستصبح مصدراً لانعدام الأمن لكلّ طائفة كلّما اختفّت السيطرة المركزية، ولذا كثيراً ما تلجأ إلى الخارج طلباً للمساعدة.
لذلك هي مصدر فرص لجميع القوى الإقليمية التي غالباً ما تتدخّل في الداخل لجعل سوريا تتّكئ على جانبها. تاريخياً، تطلّب الأمر زعيماً صارماً في دمشق يحكمها بقبضة من حديد لإبقاء سوريا تحت السيطرة من الداخل وردع القوى الإقليمية التي تريد السيطرة عليها من الخارج”.
رسالة إلى ماركو روبيو
لكنّ فريدمان، وبسبب مركزية سوريا بالتحديد، يعتقد أنّ التغيير الإيجابي فيها قد ينتشر أيضاً في جميع الاتّجاهات. ويوجّه في هذا الصدد رسالة إلى وزير الخارجية المعيّن ماركو روبيو، يقول له فيها:
“قد لا تدرك ذلك بعد، لكن إذا تمّ تأكيده، فإنّ أوّل تحدٍّ كبير لك، بصفتك كبير الدبلوماسيين للرئيس دونالد ترامب، قد يكون إقناعه بالتخلّي عن كلّ خطاب الانعزالية الذي يقول فيه “أميركا أوّلاً” و”لسنا متأكّدين من أنّنا نريد البقاء في الناتو، من يحتاج إلى حلفاء يهتمّون بدول الحثالة”… وغير ذلك من التصريحات التي اشتهر بها ترامب، حتى تتمكّن من المساعدة، وستكون لي الجرأة لقول ذلك، في بناء الأمّة في سوريا.
إنّ الإطاحة بالرئيس بشار الأسد على يد المتمرّدين السوريّين تشكّل أحد أهمّ الأحداث وربّما الأكثر إيجابية بينها، وقد تغيّر قواعد اللعبة التي سادت في الشرق الأوسط خلال السنوات الخمس والأربعين الماضية. ولكنّ الحقيقة أنّ الفرص المتاحة في السياسة الخارجية قد تأتي فجأة، والرؤساء العظماء هم الذين يغتنمون هذه الفرص، حتى ولو كان ذلك يعني تقبّل الاعتراف بالخطأ.
إنصافاً لترامب، عندما أُتيحت الفرصة لإبرام اتفاقيات أبراهام في عام 2020، بشكل غير متوقّع أيضاً، انتهزها وساعد في تطبيع العلاقات بين إسرائيل وأربع دول عربية، لِما فيه مصلحة المنطقة والولايات المتحدة. نحن نعيش لحظة مماثلة. فرص النجاح منخفضة، لكن قد تكون الفوائد هائلة، والمخاطر التي تهدّد الولايات المتحدة محدودة إلى حدّ ما، لكنّها ستتطلّب من واشنطن قيادة أكثر اندفاعاً ممّا كانت عليه في اتفاقيات أبراهام.
للغزو العراقيّ هدفان
لفهم السبب، أحتاج إلى تذكيرك بما حدث في العراق عام 2003. كان للغزو الأميركي للعراق في عهد الرئيس جورج دبليو بوش دائماً هدفان:
1- إزالة أسلحة الدمار الشامل، التي تبيّن أنّها احتيالية.
2- الهدف الثاني كان طموحاً ولكنّه مستحيل في نهاية المطاف: محاولة استبدال بصدّام حسين ديمقراطية متعدّدة الطوائف في عاصمة عربية عظيمة (بغداد) على أمل أن يؤدّي هذا إلى خلق مثال في قلب العالم العربي يمكن أن ينتشر ويساعد في علاج الأمراض التي أدّت إلى هجمات الحادي عشر من أيلول.
أقول “مستحيل” لأنّه، كما تعلّمنا، لا يمكن تحقيق الديمقراطية من الأعلى إلى الأسفل ومن الخارج إلى الداخل. بل لا بدّ أن تنمو الديمقراطية بشكل عضويّ من الأسفل إلى الأعلى. وفي العراق كانت القوات الأميركية هي التي أسقطت تمثال صدّام في بغداد، وليس العراقيون، على الرغم من أنّ العديد منهم استمتعوا بمشاهدة انهياره.
في النهاية نجح العراقيون بمفردهم في إنتاج ديمقراطية دستورية قائمة على تقاسم السلطة، لكنّها تتأرجح على حافة الدولة الفاشلة، ويخترقها عملاء ونفوذ إيران بعمق، فضلاً عن الفساد المحلّي. وعلى الرغم من أنّ العراق أجرى ستّة انتخابات نزيهة نسبياً منذ الغزو الذي قادته الولايات المتحدة والذي أطاح بصدّام في عام 2003، إلا أنّ البرلمان المتعدّد الأحزاب الذي أنتجه تهيمن عليه أحزاب محدّدة على أساس الطائفة أو العرق، وليس روح المواطنة العراقية الحقيقية القوية والكبيرة بما يكفي لمقاومة إيران.
لقد عانى العراق أيضاً منذ عام 2003 لأنّ الطاغيتين اللذين يحكمان سوريا وإيران المجاورتين بشار الأسد وعلي خامنئي بذلا كلّ جهودهما لضمان عدم ظهور نموذج ديمقراطي لائق في بغداد قد يلهم شعبَيهما باتّباع النهج نفسه. ولكن في نهاية المطاف، انتشر الربيع العربي الذي بدأ في تونس ومصر إلى سوريا في عام 2011، من دون غزو أميركي، لكنّ الأسد كان مستعدّاً لقتل مئات الآلاف من شعبه ودفع الملايين إلى الخارج للتمسّك بالسلطة حتى الأسبوع الماضي.
فرصة قيام حكومة تعدّديّة
يكمل فريدمان رسالته السؤال الكبير الذي يدور في ذهني الآن هو: هل تُتاح للشرق الأوسط فرصة أخرى لرؤية حكومة توافقية تعدّدية في وسطه، في عاصمة عربية عظيمة أخرى، دمشق، لكن يقودها هذه المرّة شعبها، وليس أيّ قوّة أجنبية؟
إذا ما تمكّن السوريون خلال السنوات المقبلة من إيجاد طريقهم للعيش معاً في مجتمع تعدّدي كمواطنين، وليس كأعضاء في طائفة، متّحدين معاً بالموافقة الطوعية، وليس بقبضة ديكتاتور حديدية، فستكون لذلك تداعيات على العراق ولبنان وإيران وليبيا والسودان، وفي كلّ مكان. وسيكون الحدث الأكثر إيجابية في الشرق الأوسط منذ صعد أنور السادات على متن طائرة وذهب إلى إسرائيل لإحلال السلام في عام 1977، وأحد أهمّ الأحداث في السياسة العربية الحديثة.
الواقع أنّ النهاية السعيدة في سوريا نتيجة ضئيلة الاحتمال، لكنّها تقدّم مكافأة هائلة للشعب السوري والمنطقة بأسرها. وعلى النقيض من الغزو الأميركي للعراق، فإنّ هذا الغزو لن يكلّف الولايات المتحدة وحلفاءها سوى القليل من المال والقوّات لمحاولة المساعدة.
الحاجة إلى مساعدة أميركيّة
لكنّ هذا لن يحدث من دون مساعدة وقيادة أميركيّتين أو من دون دبلوماسية ثابتة وصارمة مستعدّة للمجازفة بالفشل وفهم أنّ الإهمال قد يكلّف حلفاءنا غالياً. وستنتشر المنافسة داخل سوريا، وعلى سوريا من قبل القوى الخارجية، في جميع أنحاء المنطقة.
ستكون حرباً أبديّة تفتح الطريق أمام عودة ظهور داعش، وقد تزعزع استقرار الديمقراطية الهشّة في العراق والنظام الملكي في الأردن بسهولة، وتجرّ إسرائيل إلى سوريا، وهذا يعني أنّ سبعة ملايين يهودي سيسيطرون على غزة بالكامل وأجزاء من لبنان وسوريا، إضافة إلى إسرائيل والضفّة الغربية. وستجد إسرائيل نفسها مرهقة تماماً وتحتاج إلى مليارات الدولارات من المساعدات الأميركية الإضافية.
لا أعرف ما الذي يدور في رأس أو قلب زعيم المتمرّدين السوريين أبي محمد الجولاني. لقد قرأت أنّه قضى سنوات في محاولة إعادة تشكيل صورته، والتخلّي عن علاقاته الطويلة الأمد بتنظيم القاعدة وتقديم نفسه زعيماً يروّج للتعدّدية والتسامح.
إنّني أعلم أنّنا يجب أن نبذل قصارى جهدنا من الخارج لتشجيع الجولاني والضغط عليه وتحفيزه على الارتقاء إلى مستوى الصورة التي رسمها لنفسه. وقد أعجبني كيف قفز وزير الخارجية أنتوني بلينكن إلى الواجهة بتصريحه في العاشر من كانون الأوّل وتأكيده دعم الولايات المتحدة الكامل للانتقال السياسي الذي تقوده سوريا ويملكه السوريون، وأنّه ينبغي أن يؤدّي الانتقال هذا إلى حكم موثوق وشامل وغير طائفي… كما يتعيّن على الحكومة الجديدة الالتزام الواضح باحترام حقوق الأقلّيات بشكل كامل، وتسهيل إيصال المساعدات الإنسانية إلى كلّ المحتاجين، ومنع استخدام سوريا قاعدة للإرهاب أو تشكيل تهديد لجيرانها.
المشكلة السّوريّة نموذج للتّحدّي
ختاماً يقول فريدمان: ستكون المشكلة السورية نموذجاً مصغّراً للتحدّي الرئيسي الذي سيواجه فريق السياسة الخارجية لترامب على مستوى العالم: أي كيفية إدارة الضعف وليس القوّة، وكيفية إدارة الدول المنهارة التي تهدّد العالم بانهيارها، وليس الدول الصاعدة التي تهدّد العالم بقوّتها.
لكن باستثناء الصين، فإنّ الدول الضعيفة، وليس الدول القويّة، هي التي ستزعج أميركا وحلفاءها، وبالتالي سيكون التحدّي المركزي لفريق ترامب كيفية بناء الدولة أو إصلاحها بتكلفة سيتحمّلها الشعب الأميركي.
قد يختار ترامب الانسحاب من سوريا، كما حاول ذات مرّة عندما كان رئيساً، ويشاهد الشرق الأوسط يتفكّك تماماً ويقول ما قاله نائب الرئيس المنتخب جيه دي فانس ذات مرّة عن أوكرانيا: “أنا لا أهتمّ حقّاً بما يحدث”. أو قد يعترف ترامب بأنّ الطريقة الوحيدة لتوجيه سوريا في اتّجاه إيجابي بثمن مقبول، هي بناء تحالف مع حلفائنا في حلف شمال الأطلسي واليابان وكوريا وأستراليا، وربّما حتى الصين والهند، يسعى إلى إعطاء الانتفاضة السورية أفضل فرصة ممكنة للنجاح.
لقد ابتعد الرئيس جو بايدن عن أفغانستان بعد وقت قصير من تولّيه منصبه. كان الأمر سيّئاً بالنسبة له ومحزناً بالنسبة للأفغان. لكنّ سوريا ليست أفغانستان. أفغانستان تنهار وتنفجر داخلياً، وأمّا سوريا فتنفجر إلى الخارج”.
إيمان شمص