فرنسا: أزمة حكم اسمها “اليسار”
بقلم د. فادي الأحمر
«اساس ميديا»
في رحلة الهروب من اليمين المتطرّف وقعت فرنسا في حضن أقصى اليسار. نجح الفرنسيون بمنع التجمّع الوطني من تسلّم مقاليد الحكم لكنّهم باتوا اليوم بمواجهة “فرنسا الأبيّة” المتوقّع تسلّمها للسلطة.
ما الذي حدث بين الدورتين الأولى والثانية للانتخابات التشريعيّة الفرنسيّة؟ وما هو المشهد السياسيّ المُقبل؟
شهدت الأيام القليلة الفاصلة بين الدورتين الأولى والثانية من الانتخابات سلسلة من النجاحات والأخطاء التي حقّقها وارتكبها كلّ الأطراف:
أوّلاً، النجاحات:
– نجح ماكرون في جمع قوى الوسط واليسار في مواجهة التجمّع الوطنيّ. جمعهم تحت عنوان “قوس الجمهوريّة”. عنوان بقي فارغاً لأن لا شيء يجمع بينهم سوى منع التجمّع الوطنيّ من الوصول إلى الحكم.
– نجحت خطّة انسحاب المرشّح الثالث التي اعتمدتها الأحزاب المناهضة للتجمّع الوطنيّ. ففي اليومين التاليين للدورة الأولى (المخصّصين لانسحاب المرشّحين) انسحب 209 مرشّحين من أصل 299 دائرة تأهّل فيها ثلاثة مرشّحين إلى الدورة الثانية. فانحصرت المنافسة عملياً بين التجمّع الوطنيّ ومناهضيه في 93 دائرة انتخابيّة فقط.
– نجح خطاب التخويف من التجمّع الوطنيّ في حشد القوى السياسيّة والقواعد الناخبة. لذلك قاربت نسبة المشاركة في الانتخابات 70%، وهي نسبة لم تشهدها انتخابات تشريعيّة فرنسيّة منذ عام 1981.
ثانياً، الأخطاء:
هذه النجاحات ساهمت فيها الأخطاء التي ارتكبها التجمّع الوطنيّ، خاصّة في الأيام الفاصلة بين الدورتين الأولى والثانية:
– أخطأ جوردان بارديلا بخوضه معركة رئاسة الحكومة بالتزامن مع الانتخابات النيابيّة. فهو راح يتكلّم وكأنّها تحصيل حاصل بعد تقدّم حزبه في الدورة الأولى، إذ أعطته استطلاعات الرأي ما بين 240 و270 نائباً. وطلب من الفرنسيين إعطاءه الغالبية المطلقة في الجمعيّة الوطنيّة (289) ليتمكّن من تنفيذ مشروعه السياسيّ. كما حدّد أولوياته في الحكم: تحسين القوّة الشرائية للفرنسيين، ورفع الضرائب عن المحروقات، وتدابير سريعة في ما خصّ الأمن والهجرة.
– الخطأ الثانيّ الذي ارتكبه التجمّع الوطنيّ هو العجلة في التحالف مع رئيس الحزب الجمهوريّ قبل تحضير الحزب لهذا التحالف. الخصومة بين الحزبين تاريخيّة وسياسيّة وعقائديّة. إيريك سيوتي تخطّاها للفوز بمقعده في نيس. بذلك خسر بارديلا 39 نائباً جمهورياً ربّما كان ممكناً أن يكونوا في صفّه. وربّما خسر 66 مقعداً حصلت عليها أحزاب اليمين التي كان بالإمكان التفاهم معها حول نوع من جبهة كما فعلت أحزاب اليسار.
أسئلة كثيرة ولا إجابات
السؤال اليوم، ماذا بعد الانتخابات؟ وعن هذا السؤال تتفرّع أسئلة: كيف سيُكمل إيمانويل ماكرون سنواته الثلاث الباقية في قصر الإليزيه؟ من هو رئيس الحكومة العتيد؟ ما سيكون شكل الحكومة؟ وأيّ أكثرية نيابيّة ستدعمها؟ كيف ستكون التحالفات داخل الجمعيّة الوطنيّة؟ هل يستمرّ تحالف الجبهة الشعبيّة الجديدة؟ هل يتمكّن ماكرون من جمع اليمين واليسار المعتدلين مع كتلته الوسطيّة ليحقّق غالبية نسبيّة أو مطلقة للحكومة العتيدة؟
مشهد فرنسيّ يشبه المشهد اللّبنانيّ
بعض هذه الأسئلة الإجابات عليها ستكون في الأيام أو الأسابيع القليلة المقبلة. أمّا بعضها الآخر فيجب الانتظار طويلاً للحصول على إجابات عليها. بيد أنّ الأكيد أنّ المشهد السياسيّ الذي أفضت إليه الانتخابات التشريعيّة مختلف تماماً عن السابق. يشبه إلى حدّ ما المشهد اللبنانيّ الذي يحاول ماكرون منذ سنتين التوسّط من أجل حلّ له. ويمكن اختصاره بالتالي:
جمعيّة دون غالبيّة
أفضت الانتخابات النيابيّة إلى مجموعة من الكتل النيابيّة لم تحصل أيّ منها على الغالبيّة المطلقة. بحسب النتائج النهائية الرسميّة حصلت الجبهة الشعبيّة الجديدة على 180 مقعداً. وحصل معسكر الوسط الرئاسي على 163. ونال التجمّع الوطنيّ وحليفه إيريك سيوتي على 143. وتقدّم الحزب الجمهوريّ اليمينيّ وحلفاؤه الكتل الصغيرة بـ 66 مقعداً. بينما توزّعت المقاعد الـ 25 الباقية على أحزاب صغيرة.
صعوبة تشكيل حكومة
أمام هذا المشهد من الصعب على الرئيس تكليف شخصية رئاسة حكومة من دون تحالفات. ومن الصعب على الرئيس المكلّف تشكيل حكومة ونيل الثقة لها وضمان سير عملها من دون تحالفات تساعده على توفير الغالبية المطلقة لمشاريعها السياسيّة والقوانين التي ستتقدّم بها، وقبل كلّ ذلك عدم طرح الثقة بها عند أوّل منعطف. لذلك لم يقبل إيمانويل ماكرون استقالة حكومة غبريال أتال، الذي قدّمها بحسب التقليد المتّبع. وطلب منه البقاء في منصبه.
انتقال القرار السّياسيّ من الإليزيه إلى الحكومة والبرلمان
خلال ولايته الأولى والسنتين الأوليَيْن من ولايته الثانية كان ماكرون يتّخذ القرارات في قصر الإليزيه بالتشاور مع ما يُعرف بـ “خليّة الإليزيه”، وهي مجموعة صغيرة من المستشارين والأصدقاء. وكان يُبلّغ القرار إلى الحكومة لاتّخاذه وإلى النواب في الجمعيّة الوطنيّة للتصويت عليه وتصديقه. وآخر تلك القرارات حلّ الجمعيّة الوطنيّة. هذه المرحلة انتهت. لم يعد لماكرون الغالبيّة في البرلمان. ولن يتمكّن من تعيين رئيس حكومة من حزبه يكون منفّذاً لقراراته ومن تشكيل حكومة تنفّذ سياساته.
توقّف عجلة الإصلاح
كما ستتوقّف الخطوات الإصلاحيّة التي وعد بها ماكرون في الحملة الانتخابيّة الثانية والتي تحتاج إليها البلاد. ومن المحتمل أن يعلّق العمل بقوانين إصلاحية مثل رفع سنّ التقاعد، فالجبهة الشعبيّة الجديدة تطرح خفض السنّ إلى الـ 60. كما ستتوقّف الإصلاحات في التقديمات الاجتماعيّة في ما يتعلّق بالصحّة، والبطالة، والتعليم،… فعلى هذا المستوى يتّفق المعسكر الرئاسيّ مع اليمين واليمين المتطرّف ويختلف مع أحزاب اليسار أعضاء الجبهة الشعبيّة الجديدة.
ربّما خطاب التخويف من التجمّع الوطنيّ كان أكثر من اللازم، فنجح ماكرون في إبعاد خطر اليمين المتطرّف وطروحاته القوميّة والعنصريّة. ولكنّه أعاد إلى الحكم اليسار، ومعه اليسار المتطرّف الذي يشكّل خطراً أكبر بطروحاته الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي من شأنها إسقاط الجمهوريّة وميزانيّتها في عجز يفوق أضعاف ما هو عليه اليوم.
د. فادي الأحمر – فرنسا