غزّة قالت كلمتها ومشت: لا للرّحيل

0

بقلم أمين قمورية
«أساس ميديا»
لن يفهم أبداً الرئيس دونالد ترامب مغزى المسير الطويل للغزّيين العائدين إلى بيوتهم المسحوقة سحقاً في شمال القطاع. كان يتوقّع أن يستجيبوا لدعوته لهم إلى الرحيل. خمّن أنّهم سينتقلون جنوباً نحو سيناء “بحثاً عن الأمان” في مصر والأردن وإندونيسيا، وإذ بهم يفعلون العكس تماماً. يشدّون الرحال شمالاً إلى شمال الشمال، إلى قراهم ومدنهم المدمّرة والالتصاق بترابها.
هكذا، بكلّ بساطة، يطلب ترامب من الفلسطينيين التخلّي عن أرضهم والبحر والليمون والزيتون وطول السنين طوعاً، لنكرات المستوطنين القادمين من كلّ أرجاء الأرض، ولغلاة المستثمرين ومبيّضي الأموال أصحاب الكازينوهات والمنتجعات.
سذاجته السياسية وجهله بمعدن الفلسطينيين وروحهم وصبرهم وتمسّكهم بالأرض التي ورثوها عن أجدادهم من عمق التاريخ وقبل اكتشاف أميركا بقرون كثيرة، جعلته يُصدّق أنّ ويلات حرب الإبادة والفظاعات التي عاشها سكّان غزّة وتحمّلوا فيها ما يفوق قدرة البشر والجبال على التحمّل طوال 15 شهراً، ستجعلهم يزحفون زحفاً نحو معابر رفح وكرم سالم وإيريز طلباً للنجاة والرحمة.
من أين له أن يعرف كيف يفكّر الفلسطينيون ومعنى تمسّكهم بالأرض وهو سليل الأوروبيين الذي استعمروا أرضاً خلف البحار وأبادوا أهلها الأصليين وسمّوها أميركا؟ الأرض بالنسبة إليه هي رقعة عقارية تباع وتشترى في المزادات وسوق المراهنات ويمكن الاستيلاء عليها بالقوّة أو بالحيلة وبفتات المال. الأرض بالنسبة إليهم هي شيء آخر تماماً، فهي سيرورتهم وكينونتهم، وهي سرّ وجودهم والقيمة المعنوية والرمزية والثقافية لكرامتهم. مسيرتهم المشهديّة إلى الشمال المنكوب تؤكّد بشكل قاطع أنّ بوصلتهم لا تزال تشير إلى قلب فلسطين وشمال الشمال، وأنّ كلّ الجبروت الصهيوني، وكلّ الترسانة الحربية الغربية، وكلّ مصانع المتفجّرات والقنابل، لن تقدر على قتل إرادة الحياة لدى الفلسطيني وتفكيك علاقته العضوية بينه وبين أرضه ودياره. مسيرة لن تجعل المحتلّ يشعر بالأمن والاطمئنان، لأنّها تذكّره بأنّ الفلسطينيين عائدون إلى بيوتهم في كلّ أرجاء الوطن السليب مهما طال الزمن ومهما بلغ البطش والجنون من حدّة.
سجنٌ لا يُحتمل
مسيرة الشمال تحيي فكرة ”العودة” وتسترجع مكانتها في الوعي الفلسطيني الجمعيّ، وهي المعول الأساس في هدم مخطّطات التهجير واجتثاث الوجود الفلسطيني في أرض فلسطين التاريخية.
بالهرطقة السياسية والجمل الفارغة من أيّ مضمون، لن ينجح ترامب في تحقيق ما فشلت الآلة الأميركية الضخمة وقنابل الألف رطل من تحقيقه. لو أراد الفلسطينيون الرحيل جنوباً خارج القطاع هرباً من الموت والجحيم، لفعلوا. لا القرار المصري برفض فتح المعبر ولا أيّ حدود أو ساتر ترابي كان سيوقف زحفهم البشري لو قرّروا الخروج. هل كان في استطاعة رجال الأمن المصريين أن يتصدّوا لنهر بشريّ هادر مثل ذلك الذي توجّه شمالاً؟ ما حال دون ذلك، فقط، قرارهم الذاتي بالصمود في أرضهم وعدم تكرار التجربة المريرة للجوء آبائهم وأجدادهم عام 1948.
تصريحات ترامب عن “تنظيف” القطاع والضفّة الغربية من أهلهما ونقلهم إلى مصر والأردن، تأتي استكمالاً لما بدأه سلفه جو بايدن من دعم حرب الإبادة ضدّ الفلسطينيين وتصفية قضيّتهم، ولن تتوقّف إداراته عن مساعيها بكلّ ما أوتيت من صلف وجبروت وإغراءات للضغط على القاهرة وعمّان بعصا التهديد وبجزرة الإغراءات الاقتصادية وإلغاء ديونهما للقبول بفتح حدودهما واستقبال طالبي الهجرة، وسترفع مبيعات الأوهام للأنظمة العربية الأخرى لإقناعها بـ”تفهّم الحاجات الأمنيّة” لإسرائيل والدخول في تطبيع مجّاني معها كسباً للودّ والحماية الأميركيَّين. وإذا ما عجزت مصر والأردن عن تنفيذ كامل المهمّة، فإنّ السفارات الغربية لدى إسرائيل ستتولّى البقيّة الباقية عبر تشجيع الشباب الفلسطيني على الهجرة إلى الدول الغربية وبدء حياة جديدة في الخارج والاندماج في مجتمعاتها.
ما سيعجز عنه اليمين الأميركي الفاقع ستتولّاه الفاشيّة الإسرائيلية المدمّرة، التي ستصعّد الاستيطان والتطهير العرقي وحرمان الفلسطينيين من أبسط مقوّمات العيش حتى تصبح حياتهم سجناً لا يُحتمل فيوافقوا طوعاً على الرحيل.
لقد هزمنا الموت
الموقفان المصري والأردني مهمّان في مواجهة موجة التهجير المزمعة، شرط ألّا تكتفي القاهرة وعمّان بالرفض الخطابي للخطّة وأن تعملا على تثبيت الفلسطينيين في أرضهم. لكنّ الأهمّ هو قرار أهل غزّة أوّلاً. هؤلاء يواجهون اختناقاً معيشيّاً غير مسبوق بعدما دمّرت كلّ متطلّبات إنسانيّتهم، فهم بشر في النهاية ولديهم احتياجات طبيعية مثل الأكل والشرب والعلاج والعلم والعمل والطموح والزواج والإنجاب، وهذا لا يقلّ أهمّية عن حاجاتهم المعنوية كالكرامة والحرّية والتمسّك بتراب الوطن والأرض. وعليهم الآن الخيار بين المادّي والمعنوي لتقرير هل البقاء في غزة يستحقّ التضحية والتحمّل؟
من سجّل صموداً أسطورياً طوال الأشهر الـ15 الماضية في مواحهة أبشع الحروب التي شهدتها البشرية قادر على الثبات ومواجهة التحدّي بعد توقّف عجلة الإبادة الجماعية. وهذا قد يكون أمراً ملهماً للبعض، لكنّه قد يمثّل عبئاً ثقيلاً على البعض الآخر، ولا يمكن التخفيف من حدّته إلّا بالتضامن الجماعي وبانبثاق أفق سياسي جديد يعزّز الثقة بأنّ شيئاً ما قد يتغيّر ويأتي بالأفضل.
لا شكّ في أنّ المسار الذي ستسلكه غزّة وأهلها لجهة الصمود أو الرحيل سيكون عظيم الأثر على مجمل القضيّة الفلسطينية ومستقبل الشعب الفلسطيني ومصيره، فإمّا أن يكون ملهماً لأهل الضفّة وإمّا أن يكون مثبّطاً للعزائم، فتستغلّه إسرائيل وتجعله أمثولة قاسية لعقاب كلّ من يخالف إرادتها والمشيئة الأميركية.
قالت غزّة كلمتها بمسيرة العودة إلى الشمال. لم تكن استعراضاً ولم تطلقها فتوى أو أمر حزبيّ. إنّها قرار جماعي حاسم: لقد هزمنا الموت. لن يهزمنا طغاة مهما كان جبروتهم. لن نرحل.
أمين قمورية

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.