غاب سليم الحص: بكى الوطنيون وتيتّم الشرفاء!

44

المحامي  أسامة العرب

كان دولة الرئيس الدكتور سليم أحمد الحص، رحمه الله، أحد أبرز رموز العيش المشترك في لبنان، وأخٌ كبيرٌ لي، وقد كنت احترمه كثيرًا، لشدّة تواضعه  وطيبة قلبه، لاسيما أنه كان قد عانى في طفولته ومراهقته، من شظف العيش، فوالده كان قد توفي بعد سبعة أشهر من ولادته، وانصرفت والدته لتربيته في ظروف معيشية صعبة، ثم انصرفت ابنة خاله صفية الحص بالتبرّع بتمويل دراسته، فانتقل إلى الآي سي التي تخرج منها، ثم انتقل إلى دراسة إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية في بيروت، ونال شهادة البكالوريوس والماجستير منها، ثم سافر إلى الولايات المتحدة الأميركية ونال شهادة الدكتوراه على أطروحته التي كانت بعنوان: «الدور الذي يقوم به مَصْرِف مركزي في لبنان»، ولم يكن حينها قد أنشئ مَصْرِف مركزي لبناني بعد. ولذلك تكوّنت شخصيته في جوّ من الوحدة ونمت على أسس صلبة سدّدت طريقه معتمدًا على ذاته وعلى القيم الأخلاقية التي يؤمن بها، وفي طليعتها أن الطموح مستحب بقدر ما الانتهازية مكروهة والتزلف. كما تكوّنت صداقتي المتينة مع دولته، رحمه الله منذ السبعينات، وكان يخبرني دومًا كم كان طريقه المهني صعبًا، فقد بدأ حياته المهنية محاسبًا في شركة التابلاين عام 1952، ثم موظفًا في غرفة التجارة عام 1955، حيث تعرّف على زوجته ليلى فرعون، التي كانت حينها زميلة له في غرفة التجارة، وأحبها وتزوجها ثم أنجب منها ابنته الوحيدة وداد؛ ثم عمل أستاذًا محاضرًا في الجامعة الأميركية، حيث علّم مواد اقتصاد الأعمال والاقتصاد الهندسي والاقتصاد الكلّي والمحاسبة، ثم أصبح مستشارًا للصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية في عام 1964، ولاحقًا عيّن رئيسًا للجنة الرقابة على المصارف في عام 1967، أي بعد أزمة بنك انترا الشهيرة، ولاحقًا أصبح رئيسًا لمجلس الإدارة ومديرًا عامًا للمصرف الوطني للاتحاد الصناعي والسياحي، كما عيّن رئيسًا لمجلس إدارة المصرف العربي والدولي للاستثمار في باريس، ورئيسًا للجنة الخبراء العرب المنبثقة على جامعة الدول العربية، وعضوًا لمجلس أمناء الجامعة الأميركية في بيروت والمجلس الاستشاري للبنك الدَّوْليّ.

وقد أحببت بدولة الرئيس ازدراءه الدسائس والألاعيب، وطوقه للتسامح دون محاباة، والانشداد للعيش المشترك والوفاق الصحيح، وإيمانه بالله والوحدة الوطنية وعروبة لبنان ورسالته في إطار محيطه العربي والعالم أجمع. ووجدته صاحب ضمير ووجدان وقّادين، كثير التشدّد في محاسبة النفس، صريحًا ومستقلًا في الرأي، منفتحًا، لا يتأثر بالتهديد ولا بالوعيد، ذروة في النزاهة واحتقار الإغراءات، وقد كان حينها يعمل دون كلل، ويحبّ العلم والمثقفين. ولذلك لا عجب إن تبوأ مناصب عدّة، فقد عيّن رئيسًا لمجلس الوزراء ووزيرًا للاقتصاد والتجارة، ووزيرًا للصناعة والنفط، ووزيرًا للإعلام في كانون الأول سنة 1976 في عهد فخامة الرئيس إلياس سركيس؛ والجميع يعلم أنّ دولته، رحمه الله، كان أوّل من طالب بإلغاء الطائفية في الإدارة والقضاء والجيش وقتها، وأوّل رئيس وزراء يوقّع على مرسوم تعيين قضاة بالرغم من اختلال التوازن الطائفي بينهم، إذ كان هنالك أحد عشر قاضيًا مسيحيًا وثلاثة مسلمين فقط في مرسوم التعيين، وكان جوابه على حملة الاحتجاجات التي أقيمت بوجهه أنه قرّر أن يكون أوّل رئيس يتخذ خطوة على طريق إلغاء الطائفية في الوظيفة والسياسة؛ لكن دولته استقال سنة 1978، ليفسح للرئيس سركيس تأليف حكومة فعاليات، واصطدم الأخير باستحالة قيام مثل هكذا حكومة، فاضطر الرئيس الحص للعودة عن استقالته، وفي الثاني من تموز 1979 أعاد الرئيس سركيس تكليف الرئيس الحص لتأليف الوزارة من جديد، وخلال رئاسته الحكومة، وضع برنامجًا إصلاحيًا عُرف بالمبادئ الأربعة عشر، بهدف إنهاء الأزمة الدامية، لكن التجربة لم تؤد إلى أي نتيجة إيجابية، فقدّم استقالته بتاريخ 7 تموز 1980؛ ثم عيّن لاحقًا وزيرًا للعمل ووزيرًا للتربية الوطنية والفنون الجميلة في نيسان 1984 في حكومة الرئيس رشيد كرامي، ثمّ تولى بعدها رئاسة الحكومة بالوكالة إثر اغتيال الرئيس رشيد كرامي في الأول من حزيران 1987، ثم تمّ تكليف الحص بتأليف الوزارة من جديد في عهد الرئيس الهراوي في تشرين الثاني 1989، وانصبّ اهتمامه على إعادة توحيد البلاد، وترجمة اتفاق الطائف على أرض الواقع. كما انتخب الرئيس الحص نائبًا عن بيروت في دورة 1992، وفي دورة 1996، وأخيرًا عيّن رئيسًا لمجلس الوزراء ووزيرًا للخارجية ووزيرًا للمغتربين في كانون الأول 1998 في عهد الرئيس إميل لحود، حيث قام بتعييني حينها نائبًا لرئيس مجلس إدارة الصندوق المركزي للمهجرين بعد أن كنت مستشاره القانوني ومحاميه وممثله في المناسبات الوطنية لسنوات عديدة؛ كما شارك دولته لاحقًا في انتخابات سنة 2000 وكان أول رئيس حكومة يُخفق في النجاح بالانتخابات النيابية وهو في موقع الرئاسة، وذلك من شدّة نزاهته ونظافة كفّه. وما أدلّ على ذلك، أنه مَثّل طَول حياته مثال الرجل الحازم الهادئ، صاحب الخيارات الدقيقة، وكان أمينًا على العملين الوطني والقومي، فقد أسس ندوة العمل الوطني وترأسها، ثم شغل موقع عضو مجلس أمناء صندوق العون القانوني للفلسطينيين عام 2003، كما شغل موقع أمين عام منبر الوحدة الوطنية عام 2005، ورئيس مجلس أمناء المنظمة العربية لمكافحة الفساد عام 2005، ونيابة رئاسة مجلس أمناء المؤسسة العربية للديمقراطية في قطر عام 2007.

وبعد أن انتقل إلى رحمته تعالى، استحضر ما كان لي مع أستاذي دولة الرئيس الدكتور سليم الحص من ذكريات جميلة، فعندما كان في أوجّ عطائه، كان بمثابة الأخ الكبير بكل معنى الكلمة، وبفضله تمكّنت من احتراف الكتابة في العمل الوطني والسياسي، ومن مبادئ دولته تعلّمت نظافة الكف، وكيف تكون محبة الأوطان، والتضحية من أجلها وبناء قلاعها. لذلك، كنت وما أزال أنظر إليه كصانع لتاريخ لبنان المجيد، وقائد وطني نزيه ونادر، وواحد من الزعماء الذين أعطوا الوطن بإخلاص ومحبة وصدق، أفضل ما يمكن إعطاؤه.

 رحم الله دولة الرئيس سليم الحص، الرئيس الأكثر أصالة وتعصبًا للتوافق بين الطوائف الإسلامية والمسيحية، ولخدمة الوطن، وأسكنه فسيح جناته، مع الأنبياء والشهداء والصديقين، وحسن أولئك رفيقَا، مقدمين تعازينا الحارة لأسرته، لاسيما ابنته وداد وحفيده د. سليم ولعموم محبيه، ألهمكم الله الصبر والسلوان، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

المحامي اسامة العرب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.