عشرات آلاف الكويتيّين .. ليسوا كويتيّين!
نايف سالم – الكويت
«أساس ميديا»
كقطار يسير بثبات بلا توقّف، تمضي الحكومة الكويتية في قرارات وإجراءات سحب الجنسيّات من مئات المواطنين (السابقين)، في سياق التعاطي الحازم مع ملفّ “الحفاظ على الهويّة الوطنية”، وفق تعليمات عليا من الأمير الشيخ مشعل الأحمد الذي شدّد في خطابه الشهير يوم 10 أيار الماضي على محاسبة “من دَخَل البلاد على حين غَفلة وتدَثَّر في عباءة جنسيّتها بغير حقّ، ومن انتحَلَ نسباً غير نسبه، أو من يَحمل ازدواجاً في الجنسية أو وسْوَسَت له نفسه أن يسلك طريق التزوير للحصول عليها واستفاد من خيرات البلاد دون حقّ”.
كان الأمير، بصفته رئيس الدولة، واضحاً في كلامه الذي تضمّن عبارات قيلت للمرّة الأولى بهذه الصراحة، وعكَسَ التوجّه الذي بدأ منذ تولّيه مقاليد الحكم نهاية 2023، لكنّ وتيرة الإجراءات بعد الخطاب تسارعت أضعاف المرّات ليصل عدد الأشخاص الذين سُحبت جنسيّاتهم مباشرة إلى أكثر من 850، يُضاف إليهم عدد مضاعف 3 أو 4 مرّات يشمل كلّ من اكتسبها معهم (زوجات وأبناء)، وهو ما يعني أنّ عدد الكويتيين الذين أصبحوا غير كويتيين منذ بداية 2024 حتى الآن يُقدّر بالآلاف، وعلى الطريق ليصبح عشرات الآلاف.
تصدر قرارات سحب الجنسية عبر إجراءين قانونيَّين: الأوّل يتمثّل بمرسوم يصدر عن الأمير ويوقّعه رئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية، والثاني هو قرار من “اللجنة العليا لتحقيق الجنسية الكويتية” يوقّعه وزير الداخلية الذي يرأس اللجنة.
في الحالة الأولى يرتبط السحب أو الإسقاط بحالات محدّدة في المادّتين 13 و14 من المرسوم الأميري الصادر في عام 1959 بقانون الجنسية والقوانين المعدّلة له، وأبرزها:
– إذا ثبت أنّه مُنح الجنسية الكويتية بطريق الغشّ أو بناء على أقوال كاذبة.
– إذا حكم عليه خلال 15 سنة من منحه الجنسية الكويتية في جريمة مخلّة بالشرف أو الأمانة.
– إذا عزل من وظيفته الحكومية تأديبياً لأسباب تتّصل بالشرف أو الأمانة خلال 10 سنوات من منحه الجنسية الكويتية.
– إذا استدعت مصلحة الدولة العليا أو أمنها الخارجي ذلك.
– إذا توافرت الدلائل لدى الجهات المختصّة على قيامه بالترويج لمبادىء من شأنها تقويض النظام الاقتصادي أو الاجتماعي في البلاد أو على انتمائه إلى هيئة سياسية أجنبية.
– إذا عمل لمصلحة دولة أجنبية وهي في حالة حرب مع الكويت، أو انضمّ في الخارج إلى هيئة من أغراضها العمل على تقويض النظام الاجتماعي أو الاقتصادي للكويت، أو صدر حكم بإدانته في جرائم ينصّ الحكم على أنّها تمسّ ولاءه لبلاده.
في الحالة الثانية، يتعلّق سحب الجنسية بحالات مذكورة في الموادّ 9 و10 و11 و21 من القانون نفسه، أبرزها:
– إذا كسبت الزوجة الأجنبية الجنسية الكويتية ثمّ استردّت جنسيّتها الأصلية أو كسبت جنسية أخرى بعد انتهاء الزوجية.
– إذا تزوّجت الكويتية من شخص أجنبي وحصلت على جنسيّته.
– إذا تجنّس الكويتي مختاراً بجنسية أجنبية.
– إذا تبيّن أنّ الجنسية أعطيت للشخص بغير حقّ بناء على غشّ أو أقوال كاذبة أو شهادات غير صحيحة.
لم يعترض أحد..
صحيح أنّ هذه الموادّ موجودة منذ عام 1959 بموجب القانون الذي خضع للعديد من التعديلات، خصوصاً في 1970 و1980 و1998 و2004، لكنّ تفعيلها كان قليلاً بحيث من يحصل على الجنسية زوراً “يتنعّم بالعطايا” (سكن، قرض، مساعدات، بدلات، وظائف، تعليم، طبابة…) مُدداً طويلة، ومن النادر اتّخاذ إجراءات بحقّه إلا في حالات محدّدة، مثل الوشاية به والإبلاغ عنه، أو مجهودات فردية من بعض الوزراء والمسؤولين.
حتى ما قبل أيار الماضي، كان هذا الملفّ حسّاساً ودقيقاً ويتحاشى الكثير من المسؤولين الخوض فيه، على اعتبار أنّ هناك خوفاً من أن يُستخدم كـ”أداة سياسية” ضدّ الخصوم. وكُلّما فُتح الملفّ في السابق تعالت أصوات نيابية وبرزت اعتراضات كبرى على اعتبار أنّه لا يوجد كويتي درجة أولى وكويتي درجة ثانية، وأنّ من تحوم شكوك حوله تجب إحالته إلى القضاء، وليس إصدار قرار حكومي يُحدّد مصيره (راجع مقال “أساس” بعنوان “ما قصّة سحب الجنسيات في الكويت” المنشور بتاريخ 23/3/2024).
انتهى كلّ ذلك مع حلّ البرلمان وتعليق موادّ في الدستور منذ العاشر من أيار الماضي، حيث أدارت الحكومة مُحرّكاتها وسارت بالملفّ عبر تكثيف عمل اللجنة العليا لتحقيق الجنسية، وفق ما أعلن وزير الداخلية الشيخ فهد يوسف الصباح في تصريحات صحافية، مؤكّداً أنّ اللجنة “تقوم بدورها على أكمل وجه وتواصل العمل بكلّ دقّة”، وأنّ “المسحوبة جنسيّاتهم لم يعترضوا على القرارات لأنّها مدعّمة بالأدلّة الثبوتية والقرائن”.
أعلن أنّ اللجنة “لم تنتهِ من هذا الملفّ بعد، وما زلنا في البداية”، وأنّ دفعات سحب الجنسية مستمرّة بعد الفحص والتدقيق.
فئة رابعة
يعني ذلك أنّ أعداد من سُحبت جنسيّاتهم مُرشّحة لأن تصبح خلال أشهر قليلة عشرات الآلاف مع احتساب الزوجات والأبناء، الذين سيُشكّلون فئة جديدة رابعة تضاف إلى الفئات الثلاث الموجودة حالياً في الكويت، وهي: فئة المواطنين، وفئة المُقيمين من العرب والأجانب، وفئة “البدون” الذين يحملون رسمياً صفة “المُقيمين بصفة غير قانونية”.
يبدو أنّ “الكويتيين السابقين” سيكونون أقرب إلى الفئة الثالثة، إذ عهدت الحكومة إلى “الجهاز المركزي لمعالجة أوضاع المقيمين بصفة غير قانونية” إصدار بطاقات هويّة خاصّة لهم، شبيهة بالبطاقات الخاصة التي يصدرها لـ”البدون”.
لهذه القرارات تداعيات إنسانية لأنّه فور صدورها يتمّ تجميد أرصدة الشخص المعنيّ في البنوك، وفصله من وظيفته في أيّ جهة حكومية، على اعتبار أنّه حصل عليها بصفة “المواطن” التي فقدها.
من بين المشاكل الشائكة كيفية تسديد القروض المتوجّبة عليه أو التعامل مع أملاكه أو الإجراءات التالية من مثل منحه جواز سفر خاصّاً للتنقّل في حال الضرورة، وغيرها من الأمور التي تحيط بها الأسئلة أكثر من الأجوبة.
أساليب التّزوير
إذا كانت الغالبية الساحقة تؤيّد محاسبة من اكتسب جنسيّته بالتزوير على اعتبار أنّه حصل على مميّزات ليست من حقّه، وهو بالأصل مُرتكب لجرم التزوير، فإنّ قسماً آخر يرى ضرورة التفريق بينن المُزوّرين وأبنائهم وأحفادهم، بمعنى أنّ بعض المسحوبة جنسيّاتهم ربّما يكون آباؤهم أو أجدادهم هم من حصلوا عليها بالتزوير، وهو ما يعني أنّهم لم يرتكبوا الجرم بأنفسهم، وبالتالي يجب منحهم بعض “الأعذار التخفيفيّة”.
يتداول الشباب ويروي “الشيّاب” (كبار السنّ باللهجة الكويتية) قصصاً أقرب إلى العجائب عن أساليب تزوير الجنسية، منها أن يموت الشخص ويُدفن لكنّه يبقى حيّاً على الورق، أو أن يسافر إلى الخارج ويعود مع عدّة أولاد بزعم أنّهم أبناؤه الذين أنجبهم من زوجات غير كويتيات، أو أن يقوم شخص بإخفاء وفاة ابنه أو ابنته ويقوم ببيع جنسيّته أو جنسيّتها لأحد الوافدين السوريين أو العراقيين أو الإيرانيين….
لكنّ قصّة حقيقية يصعب استيعابها تطغى على كلّ هذه الروايات، سبق أن كشفها رئيس مجلس الأمّة السابق مرزوق الغانم مطلع عام 2020 داخل مجلس الأمّة، وانتهت بعد ذلك بسجن المرأة المُزوِّرة ومعاقبتها.
تتعلّق القصّة بامرأة تقمّصت شخصيّتين مختلفتين وحصلت على جنسية ثانية وجمعت بين زوجين.
المُزوِّرة اسمها الحقيقي “غريسة” دفعها طمعها، بمساعدة وتآمر من موظّفين حكوميين، إلى إيجاد شخصية امرأة وهمية ثانية، اسمها “عمرة”، واستخرجت لها وثائق رسمية وجنسية.
هكذا أصبحت غريسة، عبارة عن شخصيّتين إحداهما حقيقية بشخصية غريسة تحصل على كلّ المميّزات، والثانية وهمية بشخصية عمرة تحصل على كلّ المميّزات أيضاً بوصفها شخصاً ثانياً.
تمّ تزويج عمرة “الشبح” بزوج وهميّ، لتحصل بموجب ذلك على منحة وقرض زواج، ثمّ تطلّقت لتحصل على المساعدة الاجتماعية للمطلّقات، وبعدها توظّفت في القطاع الخاصّ لتحصل على الدعم المقدّم من الدولة للّذين يعملون خارج القطاع الحكومي.
بقي الوضع كذلك لسنوات طويلة قبل أن ينكشف أمرها وتتمّ إحالة غريسة “الحقيقية” ومن تآمر معها إلى القضاء.
نايف سالم – الكويت