عزّ الشرق أوّله دمشق..

11

بقلم رضوان السيد

«أساس ميديا»

ساحة الامويين علم الثورة عليها

انكسرت عصا سليمان التي يتّكئ عليها، فظهر أنّه ميتٌ من زمان. سقط نظام بشار الأسد، وبسقوطه اكتمل سقوط المحور الإيراني. الجديد البارز والكبير متعدّد:

1- انهيار النظام الذي احتجز سورية العربية خمسين عاماً وأكثر، وشوّه هويّتها وانتماءها وعطّل دورها.

2- سقوط نظام الإبادة والمعتقلات والتهجير.

3- انطلاق فجر الحرّية الشاميّة والعربية التي تصنع الكثير لسورية وللعرب.

4- ضرورة الإدارة المؤقّتة والانضباط، وضرورة الاحتضان العربي لسورية ولبنان وفلسطين والأردن… والعراق.

 نحرص نحن الكُتّاب القدامى في المناسبات التاريخية أو الحاسمة أن نقول كلاماً يُذكر، ونأمل أن يبقى لبعض الوقت. والذي يبقى على الأزمنة الآية القرآنية عن موت سليمان: {فلمّا قضينا عليه الموت ما دلَّهم على موته إلّا دابّة الأرض تأكل مِنسأته. فلمّا خرّ تبيّنت الجِنُّ أنْ لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين} (سبأ:14).

النظام السوري ميّت من زمان، بيد أنّ أحداً ما اكتشف ذلك حتى اجتماع آستانا الثلاثي بالدوحة (تركيا وروسيا وإيران). قال إردوغان: “لقد أخذوا حلب وحماة بعد إدلب وسيأخذون حمص وهم سائرون باتّجاه دمشق، وأرجو حصول ذلك بدون مشكلات”. وهذا الذي حدث بالفعل، وإن كان الهجوم الأوّل على دمشق حدث من ناحية درعا والجنوب وليس من ناحية حمص والشمال.

الرّئيس الذي يكره شعبه

العبارة التاريخية الثانية بعد آية موت سليمان، ما قاله لي صديقٌ قبل أسبوع: كلّ الثورات تبدأ بأن تفقد فئة معتبرة من الشعب الثقة بالنظام إلّا في حالة سورية، فإنّ الذي حدث أنّ أركان النظام فقدوا الثقة بشعبهم! وهذه حقيقة ساطعةٌ ما تنبّه إليها كثيرون. فبعد قتل وتهجير ما بين 8 و10 ملايين على يد نظام الإبادة (هل تحسبون أنّ الإسرائيليين ينفردون بهذه الخصلة العظيمة، قتل الناس والأرض المحروقة؟!)، وبعد القتل الذريع والتهجير الفظيع، قال بشار الأسد أمام البرلمان السوري العظيم: أشعر أنّ الشعب السوري صار أكثر انسجاماً بين عناصره، وهو يقصد تهجير تلك الملايين من مواطني دولته السُّنّة!

الرئيس الذي يكره شعبه ويخاف منه هو الذي يرميه بالكيمياوي وبالبراميل المتفجّرة ويهدم القرى والبلدات على رؤوس الناس. لقد فتح الثوّار أبواب السجون، فشاهدنا رجالاً ضائعين بعد اعتقال عشرات السنين. رأينا نساءً يخرجن مع أولادٍ لهنّ وُلدوا في السجون. يقال إنّه في سجن صيدنايا وحده كان هناك مئة وثلاثون ألف سجين. العبارة التاريخية الثالثة هي في صرّة استنتاج تنازع عليه الأصدقاء في مجلس. قال أحدهم: الجيش السوري قرّر من اليوم الأول أن لا يقاتل. وما صدّق الثوّار وظلّوا حذِرين من مكيدة. لكنّهم صدّقوا ذلك بعدما استولوا على حلب وحماة، وفي ظنّهم أنّ الجيش يتجمّع للممانعة في حمص، ولذلك قسّموا أنفسهم بين المواجهة في حمص والمضيّ باتّجاه دمشق التي سبقهم إليها ثوّار الجنوب. لماذا قرّر الجيش السوري ذلك؟

قال واحد: لأنّه متعبٌ وجائع إلّا الفرقة الرابعة (بقيادة ماهر الأسد) والحرس الجمهوري. لكنّ صديقاً ثالثاً استنكر واحتجّ وقال: الجيش السوري منذ عام 1973 لم يعد جيشاً مقاتلاً، بل تحوَّلَ إلى كتائب للقمع الداخلي: ألا ترون أنّ هذه المدنَ والبلدات سبق أن سقطت بأيدي الثوّار بين 2011 و2015 على الرغم من وجود الجيش بل الجيوش؟ يومها أعاد الاستيلاء عليها الإيرانيون و”الحزب” والروس والميليشيات العراقية، وهم ليسوا موجودين الآن للقيام بهذه المهمّة. أمّا الرابع فقال: المشكلة في ما قيل أنّ بشّاراً وصحبه هدفوا إلى حلّ الجيش وشرذمته، وقالوا للضبّاط والجنود إنّهم مسرَّحون، ربما ثأراً وانتقاماً لعجزهم عن إطلاق حملة إبادةٍ جديدة!

الأمر التاريخي الرابع، وهو أكثر من عبارة، هو انهيار المحور الإيراني بكامله. منذ عام 2004 كما أظنّ قال الملك عبدالله الثاني: حذارِ من الهلال الشيعي! وقد تجادلت مع عديدين طويلاً منذ عام 2009 عندما صرّحوا بمخاوفهم من تشييع السُّنّة! قلت لهم: نحن مليار وأكثر، فكم سيشيّعون منّا؟ الخوف من التشيّع السياسي الذي تحدّث عنه الملك. وهو الذي حصل على الرغم من الجهد الجبّار من الطائفيين الإيرانيين في سورية والعراق ولبنان واليمن وحتى إفريقيا. الذي يحصل هذه الأيام عودة الذين تشيّعوا من العامّة والمحتاجين في حلب وحمص والأرياف السورية واللبنانية ولاذوا بالمزارات المستجدّة لآل البيت الجدد إلى فطرتهم الأولى.

الحاجة للاحتضان العربيّ

الأمر التاريخي الخامس، وهو يتجاوز العبارة إلى التعبير: من يملأ الفراغ الذي كان يحتلُّه الأسديّون والإيرانيون و”المتأيرنون” والحوثيون ومتطرّفو داعش وأشباههم؟ الصديق مشاري الزايدي بصحيفة “الشرق الأوسط” يخشى على الهويّة العربية لسورية، وهي عربيّة، عربيّة، عربيّة، ولن تتزعزع أو تتصدّع. لكنّنا نحن العروبيّين في سورية ولبنان وفلسطين والأردن نحتاج إلى الاحتضان حتى لا تتجدّد آمال الإيرانيين بالعودة، ولا آمال الدواعش أو حتى تبعيّات القوى العظمى التي همّها تجاوز كلّ هويّة قومية أو دينية.

لقد بدأت الدعايات والدعاوى من إيران وبعض العراقيين و”الأميركيين” والإسرائيليين أنّهم يخشون من التطرّف والإرهاب من جانب الثوّار. وهو نفس ما كان يردّده النظام السوري الساقط. لقد شهدنا ما حصل بالعراق لعدم الاحتضان، وما استطاعت تركيا ملء الفراغ. وهي تحاول الآن في سورية.

نحن محتاجون إلى الاحتضان العربي من جانب المملكة العربية السعودية وأخواتها في الجزيرة. وهو أمرٌ ضروري. تصوّروا الآن وقد ارتحنا من ضغوط “الحزب” المسلَّح وضغوط النظام الأسدي، ولدينا تحدّي انتخابات الرئاسة اللبنانية، والكلّ حاضر ما عدا السنّة الذين لا تقوم دولةٌ ولا نظامٌ إلّا على أكتافهم في لبنان وسورية وغيرهما في هذا المشرق الذي اضطرب ليس بسبب الطاغوت الإسرائيلي فقط، بل وبسبب غياب التوازن الذي تصنعه الأكثرية العربية.

تصوّروا أنّه منذ عام 2018 يحتضن الروس الثنائي الإيراني والتركي لحلّ المشكل السوري ولا يحضر عربيّ (!) في اجتماع الثلاثي الأخير بالدوحة بقطر! لا يستطيع أحدٌ الحلول محلّ الأكثرية العربية ولا النيابة عنها. لقد حاول عديدون ذلك بمعاونة القوى الخارجية. لكنّهم اضطربوا في مديات متطاولة ثمّ سقطوا سقوطاً مدوّياً.

العرب السوريون يحضرون من جديد بعد طول غياب. ويحتاجون إلى الدعم المعنوي العربي من المملكة وسائر العرب. تفاءلت ببيان الخارجية السعودية الواضح والصريح. ونحن محتاجون إلى شبيهه في لبنان وفي الأردن وربّما في العراق. أمّا في فلسطين فقد حدث والحمد لله.

الصّلاة في الجامع الأمويّ

الأمر التاريخي السادس يتناول الجانب الاستذكاريّ والرمزي. أحمد الشرع أو الجولاني زار الجامع الأموي وصلَّى فيه العصر وخطب وسط الجموعٍ. وهذا أمرٌ رمزي مهمّ بعدما كاد جامع بني أميّة ينهدم أو يتغيّر اسمه.

في بيروت حدث أمر رمزي آخر مهمّ، وهو صدور بيان عن رؤساء الوزارة السابقين بشأن الوضع اللبناني، وفيه فقرةٌ عن الحدث السوري وضرورة الوعي لأهميّته التاريخية. وقام مفتي الجمهورية بزيارة ضريح الرئيس رفيق الحريري، وضريح المفتي الشيخ حسن خالد. ولذلك علاقة وثيقة ودلالات على ما كان النظام السوري يرتكبه في لبنان وسورية ليس في الوقائع الجرميّة فقط، بل في الرمزيّات أيضاً.

لدى السوريين واللبنانيين وقائع ورمزيّات لا حصر لها بشأن ما حصل لشعوبنا وبلداننا في عهد الأسدَين الضاريَين من انتهاكاتٍ وقائعيّة ورمزية. والرمزيّات تكون أحياناً أعمق تأثيراً وتذكّراً من الوقائعيّات.

نحن في لبنان عندنا فرصة حقيقية بسبب زوال نظام الأسد، وتضاؤل سطوة “الحزب” المسلَّح لاستعادة الدولة والنظام، فلا ينبغي تضييعها أو الاستخفاف بشأنها. ويقع ذلك بدرجةٍ كبيرةٍ على أكتافنا بعدما قدّمنا تضحيات كبرى ليس أقلّها اغتيال حسن خالد ورفيق الحريري واحتلال بيروت، واستعباد طرابلس لأكثر من أربعين عاماً.

لستُ أخشى على الثورة السورية من اتّهامات التطرّف والإرهاب، ولا من الاعتداءات الإسرائيلية في الجولان وعلى دمشق، وهو ما يُشعر بانزعاجهم من سقوط الأسد. لكنْ ما أزالُ أخشى من فوضى العوامّ المذلولين من عقودٍ وعقودٍ، وقد قال الإمام عليّ: الغوغاء هم الذين إذا اجتمعوا خرّبوا، وإذا تفرّقوا لم يُعرفوا!

أخشى أيضاً على الثورة الظافرة من المكائد والفتن التي أحسن النظام الساقط دائماً ابتداعها. لا بدّ من السير بسرعةٍ إلى ضبّ الشارع وضبطه، وإنشاء إدارة مؤقّتة متوافَق عليها، واستعادة الجيش إلى ثكناته، ونشر الشرطة في الشارع.

سورية في حسباني أفضل حالاً من لبنان حيث نسارع إلى استجداء المساعدات دائماً لإعمار ما هدمناه أو هدمه العدوّ. السوريون في الخارج، وأنا واثقٌ من ذلك، سيعيدون إعمار وطنهم ونشر الثقة والأمان في سائر أرجائه، بحيث لا تتكرّر تجارب الهجرة المفجعة والمجاعات.

استيقظت صباح الأحد في 8/12/2024 على أخبار هروب بشار الأسد، فتذكّرت قصيدة أحمد شوقي عن ثورة سورية عام 1925 وضرب الفرنسيين لدمشق بالطائرات كما فعل الإسرائيليون وبشار في السنوات الأخيرة. يقول أحمد شوقي من ضمن القصيدة: “وعزّ الشرق أوّله دمشقُ”.

رضوان السيد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.