صفقة أوكرانيا: روليت ترامب الرّوسيّة

10

بقلم محمد قواص

«أساس ميديا»

ستتدافع النظريّات الجيوستراتيجيّة في محاولة، قد تكون عسيرة، لاستشراف الوجهات التي يلوّح بها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في مقاربة المشهد الدولي، وخصوصاً موقع الولايات المتحدة داخله. ولئن لا يزال غير ممكن تخيّل “تنحّي” أميركا عن زعامة العالم، لا سيما ما يطلق عليه اسم “العالم الحرّ”، فإنّ ما تشي به خياراته بشأن أوكرانيا وأوروبا يطرح أسئلة، حتى داخل الولايات المتحدة، بشأن الانقلاب الجاري على نسخة ما بعد الحرب العالمية الثانية للنظام الدولي وتلك المحدّثة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي.

 ربّما من الحكمة عدم الاندفاع سريعاً باتّجاه استنتاجات بشأن تحوّلات جذرية تجريها الولايات المتحدة في خططها الاستراتيجية الكبرى. فلا يعقل أن تنقلب واشنطن على نفسها بهذه الخفّة بعد بضعة أسابيع على بدء رئيس جديد ولاية رئاسية تنتهي بعد 4 سنوات وتصبح مشلولة بعد 3 سنوات. وربّما للأمانة العلميّة علينا أن نتحدّث فقط عن “ترامبيّة”، كما نعرفها، بما هي أفكار عبثية تسعى لأن تجد لها منطقاً داخل مؤسّسات “الدولة العميقة” التي عادة ما تتجاهل الغثّ وتتبنّى السمين.

مع ذلك تأخذ أوروبا أمر ذلك “الصلح” المقبل بين واشنطن وموسكو على محمل الجدّ. تذهب بعض الآراء إلى النصح بالاعتماد على النفس وإنهاء ذلك الارتهان للحماية الأميركية الذي بات عقيدة لبعض دول القارّة. تبدي العواصم غضباً من ذلك التجاهل الذي يعبّر عنه ترامب. وتبدي لندن المحسوبة تاريخياً على الولايات المتحدة، على لسان رئيس الحكومة كير ستارمر، موقفاً معانداً لواشنطن، تارة بالدفاع عن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الذي يتعرّض لحفلة “تنمّر” ترامبيّة، وتارة بالإعلان عن الاستعداد لإرسال قوات بريطانية إلى أوكرانيا لرفد أيّ اتّفاق سلام.

“خيانة” أميركيّة لأوكرانيا

تتحدّث بعض الأصوات في أوروبا عن “خيانة” أميركية لأوكرانيا. تلاحظ تقديم ترامب سرديّةً لحكاية الحرب في أوكرانيا تجافي الحقيقة وتتبنّى الرواية الروسيّة بحذافيرها. فالحرب شنّتها روسيا في 24 شباط 2022، على الهواء مباشرة، عن سابق إصرار وتصميم، وسط تحذيرات مكثّفة مسبقة من قبل أجهزة المخابرات الأميركية بقرب حدوثها، فيما كان زيلنسكي يطالب واشنطن بوقف حملات التهويل وعدم المبالغة في توقّع الحرب، حنى وقعت.

تقول هذه الأصوات إنّ حلف الناتو لم يتلقَّ يوماً طلب عضوية رسمي لانضمام أوكرانيا، وأن ليس من حالة “دراسة” لهذا الطلب.

ليس صحيحاً أنّ مشكلة بوتين هي مع رغبة أوكرانيا بالانضمام إلى الناتو. صحيح أنّ هناك رغبة تنمّ عن خوف من روسيا، لكن ليس من طلب. ولنفترض جدلاً أنّه توفّر هذا الطلب، فإنّه مرفوض لأنّ قبول العضوية يخضع لإجماع مفقود داخل الدول الأعضاء. ثمّ إنّ بوتين لم يعبّر عن أيّ غضب وامتعاض من فنلندا، وهي على حدود روسيا وحافظت على حالة الحياد في عهد الاتّحاد السوفيتي بكلّ زعمائه، لكنّها لم تبدِ رغبة بالانضمام إلى الناتو بسبب حرب روسيا ضدّ أوكرانيا فقط، بل أصبحت (إلى جانب السويد) عضواً كامل العضوية داخل الحلف.

لماذا التخلّي فجأة عن أوكرانيا؟

حين شنّت روسيا حربها ضدّ أوكرانيا لم يكن يجمع الأخيرة مع المنظومة الغربية أيّ التزامات قانونية تفرض القيام بتقديم الدعم. غير أنّ تقدّم أرتال الدبّابات الروسية صوب كييف أرعب دول القارّة برمّتها، لا سيما تلك التي تقع مباشرة على الحدود مثل بولندا وأوكرانيا وطبعاً دول البلطيق وغيرها.

لا شيء تغيّر في مخاطر الأمن الاستراتيجي يبرّر فجأة التخلّي عن أوكرانيا والاستسلام لـ”الحلّ الروسيّ”، وهو حلّ بالمناسبة مرحليّ تقبله روسيا مضطرّة بسبب تمكّن القوات الأوكرانية بدعم غربي من ردّ الهجوم الروسي وحصره شرق البلاد. وعلى الرغم من أن لا خطّة حقيقية قدّمها ترامب لإنهاء الحرب، غير أنّ وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث أبلغ جمهور مؤتمر ميونخ للأمن قبل أيّام بأنّ عضويّة أوكرانيا في الناتو “غير واقعية”، وأنّه لا يمكن العودة إلى حدود عام 2014، أي عام الاستيلاء على شبه جزيرة القرم. يسأل الأوكرانيون هنا: وماذا عن حدود عام 2022، أي عام بدء الحرب الحالية؟

يَعِد ترامب بخجل بأنّ أوكرانيا ستكون على طاولة

هزيمة أوكرانيا… هزيمة أميركيّة

بغضّ النظر عن هذا النكد الشخصي بين الرئيسين، الذي يعود بالمناسبة إلى عام 2019 حين رفض زيلينسكي طلب ترامب التحقيق في مزاعم فساد في أوكرانيا تتعلّق بنجل منافسه جو بايدن من أجل التأثير على حظوظ والده في الانتخابات، فإنّ في أوروبا من يعتبر أنّ هزيمة أوكرانيا هي هزيمة لأوروبا وتهديد وجوديّ لها، لكنّها أيضاً هزيمة للولايات المتحدة أمام معسكر جمع روسيا وإيران والصين وكوريا الشمالية خلال سنوات الحرب الثلاث. من الأسئلة أيضاً ما يتعلّق بإيحاءات تلك الهزيمة التي تسرّع همّة الصين بشأن تايوان، وتضعضع تحالف المنظومة الغربية، لا سيما بين ضفّتي الأطلسي، وهو ما من شأنه إضعاف واشنطن نفسها في مواجهتها الاستراتيجية الكبرى ضدّ بكين. وإذا ما ظهر في أوروبا من يقترب من إدراج الولايات المتحدة في ظلّ الترامبيّة داخل معسكر الخصوم، فإنّ ذلك يشير إلى انقلاب كبير داخل صفوف الحلف الغربي.

حين استمتع نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس بشنّ هجوم على أوروبا أمام مؤتمر ميونخ، صعد رئيس المؤتمر كريستوف هيوسغن على المنبر وقال إنّ “المبادئ المشتركة لم تعد مشتركة”، وبكى.

من التسرّع أن نتحدّث عن يالطا جديدة. عام 1945 جرى الأمر بين 3 زعماء منتصرين. لا تشبه إمبراطوريّة ستالين دولة بوتين. كان روزفلت يبدو صاعداً يملي على العالم قواعد هيمنة أميركا. كانت أوروبا في شخص تشرشل حاضرة.

في تحوّلات ترامب ارتباك وارتجال واستغياب لصينٍ لا يمكن من دونها ولادة “يالطات” جديدة. الأرجح أنّ حفلة التصريحات العابثة ستتوقّف. سيصغي ترامب إلى “المؤسّسة”، بعد أن يستمع إلى زوّاره الأوروبيين، وقد ينسى المراقبون مواقف أوّلية لمصلحة أخرى تضع نقاطاً جادّة على الحروف. روسيا وبوتين يعرفان ذلك أيضاً. وحده الزعيم الصيني يراقب بهدوء من بعيد.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.