سنّة لبنان يتعاطفون ولا ينزلقون

38

بقلم قاسم يوسف

«أساس ميديا»

ثمّة كلام مكتوم بدأت تهمس به الألسن في لبنان، وهو يتمحور حول الخوف العميق، وربّما المشروع، من ذهاب الأمور في سوريا نحو إمساك فروع الإسلام السياسي بدفّة الحكم، مع ما قد يعنيه ذلك من انعكاس مباشر، ليس على وجود الأقلّيات أو وحدة سوريا وحسب، بل أيضاً على امتداده إلى الجغرافيا اللبنانية، لا سيما ضمن المناطق السنّية في الشمال وفي البقاع، وعلى طول الحدود التي يتجاوز طولها 300 كيلومتر.

 هذا النقاش المضمر لا بدّ من فتحه على مصراعيه، والحديث في تفاصيله بشكل علني ومباشر، بعيداً من العواطف الجارفة أو الأفكار المسبقة والمعلّبة، وعلى الرغم من علمنا ومعرفتنا بأنّ العالم الذي هلّل بأسره لسحق اليمين السنّي في غزة، واليمين الشيعي في جنوب لبنان، لن يسمح بإعادة إنتاج أصولية دينية في أيّ مكان في المنطقة. إلّا أنّ الواجب الوطني يُحتّم على اللبنانيين جميعاً، وعلى السنّة تحديداً، أن يحسموا موقفهم المبدئي، وأن يعبّروا عن موقفهم هذا بصوت مرتفع، وبلا مواربة أو التباس.

انتصار مؤكّد… ولكن

ما جرى ويجري في سوريا هو جزء من عاطفتنا وإنسانيّتنا المُطلقة، وهو انتصار مؤكّد ولا لبس فيه، ليس للسنّة وحسب، بل لكلّ مكوّنات المجتمع اللبناني الذي عانى الأمرّين من نظام الطاغية وأدواته وأذرعه. وهو انتصار أيضاً لفكرة لبنان، ذاك البلد الصغير الذي انتفض وناضل، ورفض كلّ أنواع الوصايات، وظلّ توّاقاً لحرّيته وسيادته واستقلاله، حتى في عزّ السطوة الأمنية والعسكرية والسياسية التي مارسها هذا النظام على مدى عقود من الزمن.

ما يعنينا في سوريا قد وقع، وهذا الانتصار العظيم الذي فاض على الشعب السوري وعلى الشعب اللبناني وعلى عموم شعوب المنطقة، هو بحدّ ذاته انتقالة نوعية وهائلة وغير مسبوقة، ولا بدّ أن يؤسّس لعقلية مختلفة في التعاطي بعد الدروس الهائلة التي أنتجتها تجربة النظام على مدى نصف قرن، ونحسب أنّ الشعب السوري المنتفض قد حسم خياراته الوطنية وحدّد أولويّاته، وفي مقدَّمها حسم مسألة المواطنة والحفاظ على الحرّيات العامّة وحرّية التعبير، والوصول إلى نظام سياسي قائم على المساواة بين جميع المكوّنات والشرائح الاجتماعية، بعيداً عن منطق الثأر أو الانتقام، وبعيداً أيضاً عن إنتاج أصوليّات دينية ستصطدم بالداخل السوري أوّلاً، ثمّ بالمحيط والعالم، ولن تكون نتيجة هذه التجربة إلا مزيداً من التشظّي والشقاء والانهيار.

أمّا نحن اللبنانيين بشكل عام، والطائفة السنّيّة على وجه الخصوص، وبعد تجارب تاريخية طويلة جداً، وبعد عذابات واستحقاقات دفعنا في ركابها أغلى الأثمان، فعلينا أن نعلن بالفم الملآن أنّ ما يعنينا من سوريا هو أن تكون دولة طبيعية وموحّدة ومستقرّة، وتجمعنا بها أفضل العلاقات على الإطلاق. ونحن سنتعاطى مع الدولة ومع الحكومة التي ينتخبها الشعب السوري انطلاقاً من الدولة اللبنانية ومؤسّساتها الدستورية ومرجعيّاتها السياسية، وسوف نرفض أيّ انزلاق نحو ربط علاقات بينيّة مذهبية كانت أو سياسية، وسنقف جميعاً بالمرصاد بوجه أيّ محاولات من طرفنا أو طرفهم. وهذا تحديداً ما يجب أن تتولّاه المرجعية الدينية في دار الفتوى، والحضن العربي في السعودية، والمرجعيات السياسية السنّية بمختلف مشاربها، حرصاً على السُّنّة وحرصاً على لبنان والمنطقة.

العيون القلقة مشدودة إلى السُّنّة

الأمور الآن لا تزال في بداياتها، والتعاطف السنّي في كلّ لبنان يكاد يكون بلا صخب وبلا ضجيج. حتى طرابلس التي أضافت إلى اسمها الأوّل كنية الشام، احتفلت بالزلزال الآتي من بلاد الأمويّين على سجيّة النبلاء الذين يقفون لإلقاء التحيّة ثمّ يجلسون. وعلى الرغم من يقيننا المطلق أنّهم، والكثرة الكاثرة من سنّة لبنان، قد حسموا كلّ خياراتهم الوطنية، لكنّ العيون القلقة ظلّت مشدودة نحوهم، ليس لخوف أو خشية من تجربة اختبرناها بالدم والدموع عشرات المرّات، بل لأنّهم عصب السُّنّة وحرارتهم ونخاع شوكهم.

قال السنّة في طرابلس إنّهم يتعاطفون ويتحمّسون ويفرحون، لكنّهم لا ينزلقون. حالهم في ذلك حال السنّة أجمعين، الذين ذرفوا دمعة من نار على غزة التي اندثرت وصارت أثراً بعد عين، لكنّهم لم ينجرفوا، بل ظلّوا على الصراط المستقيم، يُمسكون بسكينتهم وكينونتهم، ويقبضون على حكمتهم واعتدالهم وأولويّاتهم الوطنية، في زمن صار فيه القابض على وطنيته الأكيدة كالقابض على الجمر.

لقد اختار السنّة في لبنان أن يكونوا أهل عقل وأهل دولة، وهم إذ يؤيّدون الثورة الهادرة في سوريا ويعادون نظامها البائد، يكتفون بموقف مبدئي وأخلاقي وإنساني، من دون انخراط أو تورّط يسمح بنقل الحريق إلى بلادهم. هذه فطرتهم التي وجِدوا عليها منذ مئات السنين، وكلّ كلام عن جنوحهم نحو الاندماج أو الجنون هو محض افتراء لا أساس له، لأنّ ما يفعلونه ليس طارئاً، بل متجذّراً وعميقاً، وقد تطوّر بفعل التجارب المريرة، من سياسات عاقلة وحكيمة إلى أسلوب حياة.

بكلّ الأحوال، وعلى الرغم من معرفتنا العميقة والمحسومة بالعقل السنّي وطريقة تفكيره ونهائية ثوابته، لكنّ ذلك كلّه لا يمنع أن نبقى بمنتهى اليقظة والتأهّب، ليس خوفاً من إمكانية الانجراف، بل حرصاً على عدم السماح بأيّ خطأ، لأنّ لبنان ما عاد يحتمل التجارب، وجميعنا مطالبون أن نصير حرّاساً على انتظام دوره وعلى استعادة تألّقه وتحصين وحدته وسيادته وحرّيته واستقلاله.

قاسم يوسف

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.