رياض سلامة.. 3 أسئلة وأسرار كثيرة
بقلم جان عزيز
«اساس ميديا»
بعد ساعات على توقيف رياض سلامة، تذكّر كثيرون رستم غزالة!
حين وصل الأخير إلى معبر المصنع، بعد ظهر 26 نيسان 2005، مغادراً لبنان نهائياً، إيذاناً بجلاء الاحتلال السوري عنه، وافاه إلى هناك بعض اللبنانيين من “الأصدقاء”، لتوديعه بنثر الزهور والأرزّ.
كان بينهم أحد الذين صاروا لاحقاً من أعتى صقور 14 آذار. وظلّ بعدها أعواماً طويلة، يضحك مقهقهاً كلّما سُئل عن الواقعة، فيجيب بطرافته اللمّاحة: “طلعتْ حتى إتأكّد إنّو فالل”!
بين صورة رياض سلامة مغادراً مصرف لبنان باحتفالية قبل سنة وشهر و3 أيّام، وبين سيل التعليقات من “النخبة” الحاكمة على صورة الحاكم السابق نفسه موقوفاً يوم الثلاثاء الماضي، ثمّة الكثيرُ الكثير من ذلك الدجل اللبناني العميق العقيم.
وهو ما يفرض رفع الصوت الآن من أجل حقيقة كاملة. وأوّل ذلك سؤالٌ مثلّث:
لماذا توقيف سلامة الآن؟ وماذا في مضمون الملفّ؟ وأيّ نتيجة متوقّعة له؟ مع ما لهذه التساؤلات من خفايا ومحظورات.
أوّلاً، في التوقيت ثمّة سيناريوهات كثيرة وروايات منسوجة في صالونات البلد الصغير. أبسطها كلامٌ عن أنّ المدّعي العامّ التمييزي “صاحب مناقبيّة مهنيّة لا ترقى إليها شكوك. وهو أخذ وقته ودرس الملفّ، ثمّ اتّخذ القرار الذي يُمليه عليه ضميره والمقتضى القانوني ومصلحة العدالة وأخواتها”… حتى آخر لازمة السائد في الإعلام.
سيناريو ثانٍ ذهبَ يتقصّى عن احتمال صفقة من قبل الثنائي الشيعي لمصلحة جبران باسيل، من نوع “بيعة مسا” من الحزب لـ”متفاهمه” الذي قارب الإفلاس النيابي والسياسي بعد الشعبي، وبالتالي “قبّة باط” ثنائية لتعويم السياسي الشابّ، على أن يُسدّد ثمنها سريعاً في الاستحقاقات المقبلة الوشيكة.
لكنّ التقصّي عن ذلك السيناريو سرعان ما يُظهر أنّ باسيل سمع بخبر توقيف سلامة من الإعلام، فسارع للتغريد، كما للتحضير لاستثماره هذا السبت في جبيل في مناسبة كانت مقرّرة سابقاً. لكن صودف الآن أن تكون غبّ الطلب وعلى طريقة رُبّ مصادفة. وسيحمل إليها طبعاً عمّه ليحصل على تسعينيّته آخر ما بقي من شعبية وصدقية مستنزَفتين (ولا بدّ من عودة مفصّلة إلى هذه الناحية لاحقاً، بين موقفَي باسيل وجعجع).
قطبة فرنسيّة سرّيّة
يبقى في سيناريوهات التوقيت كلام عن أنّ قطبة فرنسية سرّية هي ما حدّد الموعد وفرض أوان التنفيذ.
يُحكى في الكواليس أنّ باريس حضّرت الملفّ ومواعيده كاملة.
بدأ الأمر بمراسلة فرنسية إلى القضاء اللبناني في شهر نيسان الماضي تؤكّد وتحثّ على حسم موضوع سلامة.
بعدها قيل إنّ وفداً قضائياً من باريس زار بيروت لذلك، والتقى بالمعنيّين، وصولاً إلى تحويل الطلب الفرنسي مراسلة قضائية لبنانية إلى مصرف لبنان، أواخر شهر تموز.
أمّا الدوافع الفرنسية فقيل إنّها تراوح بين تصفية حسابات مع سلامة من جهات ماكرونيّة أو وثيقة الصلة بالرئيس الفرنسي، بتشجيع من حلقة رجال الأعمال اللبنانيين المحيطين بسيّد الإليزيه، مثل سمير عساف ورودولف سعادة وغيرهما، مع حرص على ختم هذه الحسابات الآن بالذات، في فترة فراغين باريسيّ وبيروتيّ.
كما حُكي عن حسابات ماليّة فرنسية مرفقة وملازمة، بحيث تؤدّي “تصفية” سلامة لبنانياً وبهذا الشكل إلى وضع اليد الفرنسية على مئات ملايين اليوروهات، بحيث لا يستردُّ لبنان منها فلساً، وصولاً إلى كلام عن عودة المشروع الفرنسي الكبير للبنان البلد الصغير، من إفلاس المصارف المفلسة أصلاً، واستبدالها بأخرى تكون جاهزة ومحدّدة سلفاً لحظة اكتمال التسوية الكبرى، مع قلّة أوليغارشية من مستثمرين يشترون حطام لبنان “على الواطي”، كما يُقال بلغة السوق.
في هذا السياق، قيل إنّ القطبة الفرنسية كانت منسّقة بما يشبه “الضغط المُقنع”، مع بعض كبار المسؤولين اللبنانيين، علماً أنّ الأمر ليس صعباً، خصوصاً مع وجود ملفّاتٍ مشتركة بين بعض هؤلاء وبين سلامة نفسه.
ثانياً، في مضمون الملفّ. على الرغم من كلّ ما سال وسيسيل من حبر ولعاب، يظلّ رياض سلامة موقوفاً في مسألة هامشية جداً، حيال مسؤولية إفلاس البلد.
أكبر من “أوبتيموم” و”فوري”
“أوبتيموم” بالنهاية شركة واحدة محدودة العمل في الحجم والوقت. وقد حوّل مصرف لبنان ملفّها إلى النيابة العامّة التمييزية منذ أكثر من 5 أشهر. وفيه بكلّ وضوح أرقامُ تعاملاتها وأسماءُ المشتركين فيها. وفيه مبلغُ العمولة وهو 20 مليون دولار والبعض يقول أربعين من الورق الأخضر نفسه، ومن قبض كلّ فلس منه. والبعض يتحدّى الجميع كشف هويّات هؤلاء!
حتى لمّا انفجر الصراع بين القاضيَين جمال الحجار وغادة عون في حزيران الماضي، كان مسؤولو مصرف لبنان يستغربون التحييك بموضوع مكشوف مثل ملفّ “أوبتيموم”. وكانوا يطالبون بفتح قضيّتها وجلائها بكلّ تفاصيلها، كما شركة “فوري” أيضاً.
ذلك أنّ الأكيد المؤكّد هو أنّ ارتكابات هاتين الشركتين، ولعبة “طرابيشهما” الوسخة، لا تبرّر ضياع مئة مليار دولار من أموال الناس. لكنّ البدءَ منهما قد يدفع البعض إلى الكلام عن ضياع المئة مليار دولار إذا ظلّ قادراً على الكلام!
لذلك أخطر ما يجري الآن في قضيّة سلامة هو محاولة اقتصار الكلام والبحث والتحقيق على “أوبتيموم” و”فوري”.
فيما المأمول من المرتكبين في هاتين الفضيحتين أن يفتحوا ملفّات الطاقة حيث حُرقت مليارات. ملفٌ واحدٌ منها كشفه “الحزب” في زلّة لسان نيابية منه، ثمّ حوّله محمد الحجار إلى إخبار قضائي ما زال ينام في كهف الممانعة عن الحقيقة، علماً أنّ أرقامه الهامشية توازي “سرقة” أوبتيموم وأخواتها.
المأمول أن تُفتح ملفّات دعم الاستيراد، حيث اختلست مليارات عن سابق معرفة وتخطيط، وملفّات السياسة النقدية العامّة التي أكلت مدّخرات جيل كامل، يومَ كانت سلطةٌ واحدة، متكافلة متضامنة، شارك فيها الجميع منذ 2008 على الأقلّ، تستدرج أموال الناس في لبنان وخارجه، فتُحرقها وقوداً لاستمرار نظام زبائنيّتها، في التوظيفات والتلزيمات والهدر والاستيراد القاتل. ثمّ تتولّى ردَّ تلك الأموال بأوراق فارغة، من نوع سندات دين أو شهادات إيداع، قبل أن تتوّج جريمتها في خريف كلّ سنة، بفرضها قانوناً، هو قانون الموازنة لا غير، يُلزم المصارف بأن تستبدل أموال الناس الحقيقية بتلك الأوراق الوهمية.
يومها فَهم حيتانُ المصارف اللعبة. فكانوا أمام خيارين: إمّا القبول باللعبة القذرة، وإمّا الخروج منها.
المصارف الأجنبية الخاضعة لمعايير دولية خرجت كلّياً. فيما دكاكين البنكرجية البلديّين قبلت وشاركت واقتطعت حصصهم وهرّبتها… ثمّ تركت السلطة تلتهم شعبها.
لم يكن رياض سلامة إلّا واحداً من الذين تولّوا إخراج تلك الجريمة، بنسبة مسؤوليّته.
تبقى الجزئيّة الثالثة من السؤال: إلى أين يمضي هذا الملفّ إذن؟
إذا اقتصر التحقيق والملاحقة على سلامة وعلى الشركتين لا غير، يكون الهدف تبرئة أكبر مافيا رسمية في أكبر سرقة دولتيّة.
أمّا إذا توسّع ليبلغ جوهر نظام المافيا، فعندها نكون أمام احتمال وجود قرارٍ دولي كبير بحفلة تنظيف لبناني شامل.
وهو ما لا تظهر له مؤشّرات حتى اللحظة.
تبقى ملاحظة ختامية، ربطاً بأوّل المقال: “أبو عبده” (كما كان يُلقّب رستم غزالة) كما الذي ذهب يودّعه “ليتأكّد من رحيله”، رحلا عن هذه الأرض، ورحلت معهما ومع سواهما أسرارٌ وحقائق.
فيما رياض سلامة هنا. وكذلك “النخبة” التي خدمها، ثمّ خدعته وتتّجه الآن لمحاكمته.
لذلك هناك واجبٌ بكشف الحقيقة كاملة، لا على طريقة قتل “الكونسيلييري”، أو مُحاسب المافيا، لتبرئة رؤوسها!
جان عزيز