رهانات إيران وعقدة الجغرافيا وخطأ التلكّؤ

51

بقلم أمين قمورية
«أساس ميديا»
زايدت المعارضة الإسرائيلية من يسارها إلى يمينها على صقور التطرّف في حكومة بنيامين نتنياهو بالدعوة إلى الانتقام الشرس وإلحاق أقصى قصاص بإيران بعد إطلاقها رشقات من صواريخها الفرط صوتية على قلب إسرائيل ردّاً على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران والأمين العامّ للحزب حسن نصرالله في الضاحية الجنوبية.
اعتبر رئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت أنّ على إسرائيل استغلال “أعظم فرصة من 50 سنة”. وقال “التاريخ يطرق بابنا وعلينا فتحه. علينا أن نتحرّك الآن وشلّ هذا النظام الإرهابي بشكل قاتل. لدينا المبرّر. لدينا الأدوات”. وطالب مثل غيره من المسؤولين الإسرائيليين بتدمير المفاعلات النووية ومنشآت النفط والغاز، وتدمير المصافي والسدود الإيرانية. باختصار يريدون تدمير النظام في إيران وتجريده من القدرة على الردع وإعادته إلى خلف حدوده وحرمانه من أيّ دور إقليمي عبر تفكيك منظوماته الخارجية والدائرين في فلكه.
أولويّة المواجهة مع إيران
الحرب الإسرائيلية على حماس والفلسطينيين والعدوان على لبنان والصدام مع الحزب يتراجعان إلى مرتبة ثانوية عندما تحضر المواجهة مع إيران. الجمهورية الإسلامية بالنسبة إلى إسرائيل هي “رأس خطبوط” يحاول محاصرتها بأذرعه: “حماس” في غزة، “الحزب” في لبنان، “الحشد الشعبي” في العراق، و”أنصار الله” في اليمن وباب المندب. وعندما تغتال إسرائيل هنية في طهران، ولا تتورّع عن ارتكاب جريمة اغتيال القائد الاستثنائي لمحور المقاومة ورمزها الأبرز حسن نصرالله، فإنّ ذلك ليس فقط إشارة انطلاق لتفكيك “الحزب” وضربه، بل إعلان حرب إسرائيلية على إيران نفسها تحظى بغطاء أميركي.
لا شكّ في أنّ الضربة الصاروخية الإيرانية الأخيرة أربكت حسابات نتنياهو وحرمته من التباهي بنشوته الطاووسية والتباهي بـ “انتصاراته” الفرعونية في الذكرى الأولى للعدوان على غزة، بعدما كشفت عن ثغرات في جبهته الداخلية وخلل استخباري في تدارك العملية الإيرانية قبل حدوثها وعدم القدرة على التصدّي لكلّ الصواريخ المنهمرة على المركز، لكنّها جاءت متأخّرة، وبدت كتسديد لحساب مؤجّل، في حين بدت مبارزتها الصاروخية الأولى مع إسرائيل في نيسان الماضي كعمل استعراضي محبوك يحمل رسائل تهدئة مع الأميركيين أكثر ممّا يحمل رسائل تحذير للإسرائيليين.
عندما أخطأت طهران
أخطأت طهران عندما ضيّعت فرصة إبراز عضلاتها الردعيّة القويّة، بعد القصف الإسرائيلي للقنصلية الإيرانية في دمشق في نيسان، ذلك أنّه في الحروب لا يكفي امتلاك القوّة والتلويح بها لثني الخصم عن الهجوم، بل يتعيّن استخدامها بشدّة في الوقت المناسب لردع العدو، لا سيما إذا كان خبيثاً وماكراً كنتنياهو لا يرتدع بسهولة ويستغلّ نقاط ضعف خصمه ليزيد بأسه وشراسته. في الأشهر الستّة الفاصلة بين قصف القنصلية في دمشق وتدمير المقرّ العامّ في دمشق، اغتنمت إسرائيل “فترة السماح الإيرانية”، للقيام بسلسلة من الضربات القاسية ضدّ المحور وأركانه بدءاً من اغتيال القيادي في الحزب فؤاد شكر وإسماعيل هنية مروراً بمجزرتي “البيجرز” و”التوكي ووكي” وتدمير مقرّ “قوات الرضوان” وقتل قادتها، وانتهاء بذروتها اغتيال السيّد. وربّما لو كشّرت عن أنيابها الصاروخية آنذاك لحالت دون تطوّر الأمور بشكل دراماتيكي على الجبهة الشمالية، وجعلت إسرائيل تحسب ألف حساب قبل إطلاق عدوانها الإجرامي على لبنان، ذلك أنّ الجبهة الداخلية للدولة العبرية هي خاصرتها الرخوة القادرة على إيلامها.
الآن على ماذا تراهن إيران كي تدرأ عن نفسها خطر انتقال الحرب إلى دارها وإلى قلب أراضيها؟
تفتقر إيران في صراعها المباشر مع إسرائيل إلى ميزة الجغرافيا، هذه الميزة التي منحتها الأفضلية والتمدّد في العراق، ومنه إلى سوريا حتى في خضمّ الغزو والاحتلال الأميركيَّين. الميزة الجغرافية تتفوّق في بعض الأحيان على القدرتين السياسية والعسكرية. تمركز “الحزب” على الحدود الشمالية للأراضي المحتلّة وصواريخه الموجّهة إلى المركز ووجود أنصار الله عند باب المندب منحاها القدرة على المناورة السياسية، إضافة إلى أوراق ضغط قويّة في مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة، وكذلك في خلافاتها مع بعض الدول العربية. أمّا في حال حصول أيّ مواجهة مباشرة بينها وبين إسرائيل، فإنّ الجغرافيا تلعب ضدّها، ذلك أنّ أيّ اختراق لحدود الدول جيرانها في اتجاه الأراضي المحتلّة يضعها في إشكال سياسي ودبلوماسي وسيادي معها على غرار ما هو حاصل مع الأردن حالياً. وهذا ما يجعلها تلجأ إلى الأوراق المستورة!
تراهن إيران أوّلاً على قدرة الحزب على إعادة تنظيم صفوفه بسرعة واستعادة القدرة على القيادة والسيطرة والصمود الطويل في الميدان على الرغم ممّا أصابه من جروح بليغة وعلى قدرته على جعل المهمّة الإسرائيلية في لبنان باهظة الثمن والتكاليف البشرية، وهو ما يجعل تركيزها على الجبهة الإيرانية مشوّشاً.
تراهن ثانياً على أنّ الإدارة الأميركية الديمقراطية الغارقة في انتخابات صعبة ومفصلية لا تحبّذ الذهاب إلى حرب إقليمية شاملة يسعى نتنياهو إلى جرّها إليها لطموحات شخصية وإسرائيلية صرفة، وترجّح ألّا يسمح البيت الأبيض، على الرغم من وهنه وموافقته الضمنية على معاقبة طهران، لنتنياهو بتجاوز الخطوط الحمر، ولا سيما ضرب المنشآت النووية أو منصّات استخراج النفط والغاز. وتنبع الخشية الأميركية من توسّع الحرب ليس من رفض الأميركيين المشاركة في حروب جديدة فقط، بل من خوفها أن تستغلّ الصين وروسيا الانشغالات الأميركية والفوضى الناتجة عن الاقتتال لمدّ جسورها إلى هذه المنطقة الحيويّة من العالم. كما أنّ واشنطن تحاذر أن يتوسّع أيّ ردّ إيراني ليشمل المصالح الغربية في الشرق الأوسط، لا سيما منها الشركات النفطية والدول الحليفة التي سمحت باستخدام أجوائها وقواعدها لضرب إيران. وكانت البعثة الإيرانية في الأمم المتحدة حذّرت في بيان مكتوب الدول المعنية من أنّ مَن يساعد المعتدي عليها سيكون هدفاً مشروعاً. وإذا كانت الدول المنتجة للنفط تملك احتياطات كافية لتعويض النقص في الإمدادات الإيرانية للسوق في حال تعرّضت لضربة، فإنّ أيّ ردّ إيراني على المصالح النفطية الغربية أو الخليجية من شأنه أن يرفع الأسعار إلى مستويات قياسية تتجاوز 200 دولار للبرميل، الأمر الذي يغرق الاقتصاد العالمي الهشّ أصلاً في أزمة خانقة، ويمثّل ضربة قاسية للمرشّحة الديمقراطية للرئاسة الأميركية كامالا هاريس.
نتنياهو والأذن الطرشاء
غير أنّ هذه الرهانات قد تسقط أو تتضرّر إذا ما أصرّ نتنياهو على إدارة الأذن الطرشاء للرغبات الأميركية مفضّلاً تمهيد الطريق لوصول المرشّح الجمهوري دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، عبر توجيه ضربات قاسية لمنشآت إيران العسكرية بما تتيحه القدرات الذاتية الإسرائيلية بشرط عدم إغضاب واشنطن لضمان الاستعانة بمظلّتها الدفاعية لردع ردّ الفعل الإيراني واستمرار تدفّق الأسلحة والذخائر الأميركية. لكنّ صنّاع الرأي في إسرائيل يجمعون على أنّ إسرائيل لا يمكن إلا أن تظلّ ملزمة بالتنسيق مع واشنطن في حال قرّرت مهاجمة المنشآت النووية في إيران لضمان إلحاق ضرر حقيقي لفترة طويلة.
يظلّ شبح الحرب الإقليمية مخيّماً على المنطقة، وتصير المواجهة صافية بين الندّين اللدودين: إيران وإسرائيل، إلّا إذا فتحت الصواريخ كوّة في جدار المفاوضات الأميركية الإيرانية.
بعد خسارتها “الحزب”، لم يعد أمام إيران سوى طريقين، إمّا المواجهة المباشرة، كما فعلت منذ أيام، أو التوصّل إلى حلّ سياسي في مرحلة ما بعد الانتخابات الأميركية أياً كان الفائز.
أمين قمورية

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.