رفيق الحريري غيابٌ لا يغيب
بقلم وليد الحسيني
في ستينيات القرن الماضي، جمعتنا جامعة بيروت العربية.
الزمان والمكان كانا للعروبة وجمال عبد الناصر.
هناك عرفت رفيق الحريري.
قومي عربي لا يتردد ولا يهدأ.
المسافة بيننا هامشية… وهي المسافة المتقاربة بين الناصري والقومي العربي.
وافترقنا لنلتقي مرة أخرى في جنيف ولوزان.
كان مثقلاً بهموم الحرب الأهلية اللبنانية. ومتحركاً بين فريقي المستحيل والمستحيل، بحثاً عن حل يعيد إلى لبنان وحدته وإنسانيته.
لم ينجح… لكنه لم يتراجع. وبقي يطارد المستحيلين إلى أن انتصر عليهما في الطائف.
رفع الركام… وأعاد إعمار البلد والأمل.
كان يعلم أنه بذلك يدخل دائرة الخطر والمخاطر.
كان يعلم أن البناء عدوّه الدمار. والحياة عدوّها الموت. والحب عدوّه الكراهية. والتسامح عدوّه الحقد. والإعتدال عدوّه التطرف. والضوء عدوّه العتمة.
مع ذلك، مارس البناء. وأسس للحياة. ودعا إلى الحب. وأدمن التسامح. وتمسّك بالإعتدال. وفتح نوافذ لبنان للشمس والضوء.
رسم بيروت عروساً. وأخرجها من وسط الركام، فإذا بها مدينة تضجّ بالنور والفرح والناس.
بقي لديه الكثير من الأحلام، قبل أن تستيقظ الكوابيس، ويلتم شمل الأعداء.
تضامن الدمار والموت والكراهية والحقد والتطرف والعتمة… وشكّلوا سوية متفجّرة هائلة كمنت لقلبه في قلب بيروت.
في لحظة إرهابية، أرهبت لبنان والمنطقة، تمزّق قلب رفيق الحريري… لكن بعد أن أودع نبضاته في قلب بيروت، لتستمر مدينته ومعشوقته بالحياة.
ليست مصادفة أن يقتلوه في يوم الحب. لقد تعمّدوا اغتيال الاثنين معاً.
يومها إعتقد الكثيرون أن لبنان يساق إلى العدم. إلا أن القضاء، الذي لا يُرَد، أراد الله اللطف به. وشيئاً فشيئاً، استعاد رفيق الحريري، رغم الغياب، حلمه بلبنان السيد الحر المستقل. واستعاد طريق البناء والإعتدال. فسعد الحريري، الذي أرغمته المأساة على دخول السياسة، إفتتح المدرسة نفسها.
ذات المنهج. وإن كانت الظروف أصعب والعقبات أكبر. فلبنان اليوم تتفوق فيه الغريزة المذهبية على سائر الغرائز البشرية والحيوانية.
اليوم، يشكل اللبنانيون شعباً إفتراضياً. ويشكل التعصب الطائفي إلغاء للعقل، مما أدى إلى إلغاء التعقّل. وبذلك أصبح الإعتدال عبئاً على المعتدلين.
لقد سبب إعتدال سعد لسعد مشاكل محلية وخارجية، قبل بنتائجها سعياً منه إلى إيجاد لغة سياسية لبنانية واحدة، تحل محل اللغات السياسية المتنافرة والمتعددة… وجميعها ترجع إلى اللغة الأم، أي “لغة الشارع”.
إذاً، بسعد مازال رفيق الحريري هنا. وفي ذكراه الـ 20 نتذكر أنه أراد أن يكون مسجد محمد الأمين مثواه الأخير. فكان المسجد آخر إعماره، وآخر جسر يبنيه بين بيروت والله.
وليد الحسيني
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.