رحلة الهرب الإسرائيلي من الواقع

61

بقلم خيرالله خيرالله

ليس في الإمكان الهرب من الواقع، واقع ما بعد حرب غزّة من جهة وواقع البحث عن حلّ سياسي من جهة أخرى. ترفض إسرائيل، في رحلة هربها من الواقع، الإقتناع بأنّ هذه الحرب جعلتها معزولة دوليا. حدث ذلك خصوصا في ضوء قرار المحكمة الجنائية الدولية بملاحقة بنيامين نتانياهو الذي إرتكب جرائم حرب. وضعت المحكمة «بيبي» في مستوى يحيى السنوار ومحمد ضيف وآخرين من «حماس» مثل إسماعيل هنيّة.

ثمة عالم جديد فرضته حرب غزّة التي تطالب محكمة العدل الدوليّة بوقفها فورا. لا بد من مزيد من الوقت كي تستوعب إسرائيل معنى حرب غزّة وابعادها على الرغم من تدميرها القطاع وتهجير أهله. لا تزال إسرائيل تحت صدمة يوم السابع من تشرين الأول – أكتوبر 2023. ستحتاج إلى وقت طويل كي تستفيق من هذه الصدمة التي هزت كيانها وجعلت مصيرها في مهبّ الريح، بغض النظر عن كل ما تمتلكه من أسلحة تدميريّة.

ولد من رحم حرب غزّة إعتراف عالمي بأن خيار الدولة الفلسطينيّة باق على الطاولة. يؤكد ذلك إعتراف دول أوروبيّة عدة، مثل نروج واسبانيا ووإيرلندا، بهذه الدولة التي لا وجد لها، حاليا، والتي التي عمل اليمين الإسرائيلي كلّ ما يستطيع من أجل الحؤول دون قيامها يوما. لا يمكن تحديد متى تعود إسرائيل إلى خيار الدولة الفلسطينيّة في حال كان مطلوبا الحفاظ على يهوديّة الدولة ووضع حدّ لأزمة ذات طابع ديموغرافي ناجمة عن وجود شعب فلسطيني على أرض فلسطين. هذا الشعب موجود ولا علاقة له بـ»حماس» وغير «حماس». هناك شعب يسعى إلى تحقيق حلمه التاريخي بإقامة دولته المستقلة. باختصار شديد، هذا الشعب موجود على الخريطة السياسيّة للمنطقة ولا بدّ من يكون فيه على الخريطة الجغرافيّة.

من الباكر التكهن بما إذا كان الإشتباك المصري – الإسرائيلي عند معبر رفح ستكون له إنعكاسات وتفاعلات مستقبلا. لكنّ الأكيد أنّ هذا الإشتباك يؤكد الحاجة إلى التوصل إلى وقف النار فورا تمهيدا لمباشرة البحث عن حل سياسي. هذا الحل غائب عن حرب غزّة نظرا إلى أن إسرائيل لا تمتلك مشروعا لليوم التالي للحرب غير مشروع تدمير غزّة. الأخطر من ذلك كلّه أن رئيس الحكومة الإسرائيلية  لا يمتلك مشروعا غير متابعة الحرب. حجته أنّه يريد القضاء نهائيا على «حماس». حسنا، قضى على «حماس»، ماذا بعد ذلك؟ هل يستطيع القضاء على الشعب الفلسطيني الذي يوجد منه ما بين سبعة وثمانية ملايين مواطن على أرض فلسطين، أكان ذلك داخل إسرائيل نفسها أو في الضفّة الغربيّة أو في قطاع غزّة المنكوب.

إرتكبت «حماس» جريمة موصوفة عندما شنت هجوم «طوفان الأقصى». إن دلّ هذا الهجوم على شيء، فهو يدل على غياب الأفق السياسي لدى تلك الحركة التي لا تعرف، حتّى الآن، ماذا تريد فعلا. لا أفق سياسيا لدى «حماس» ولا أفق سياسيا لدى إسرائيل. لا وجود لدولة في العالم لا تمتلك سوى سياسة تقوم على فرض الاحتلال. لا يشبه بنيامين نتانياهو غير فلاديمير بوتين الذي يعتقد أنّ في استطاعته فرض الاحتلال الروسي على أوكرانيا… أو على جزء منها.

بعد نحو 240 يوما على حرب غزّة، يمكن ملاحظة غياب الوعي الإسرائيلي لأبعاد هذه الحرب. مثلما أنّ «حماس» لا تقوى على رؤية ما حل بغزّة، نرى إسرائيل عاجزة ملّيا عن استيعاب ما أدّت إليه تلك الحرب، خصوصا على صعيد طبيعة علاقتها بالولايات المتحدة. صحيح أنّ الرئيس جو بايدن ما زال يدافع عن إسرائيل وما زال يسمح بتزويدها ما تطلبه من سلاح وحمايتها في مجلس الأمن، لكن الصحيح أيضا أن إدارة بايدن نفسها لا تستطيع الإستمرار في تغطية الجريمة التي ترتكب في غزّة وهي جريمة تترافق مع هرب إسرائيلي من الحل السياسي.

كلّما مرّ يوم، يتبيّن مدى الإرتباط الإسرائيلي بالولايات المتحدة ومدى إتكال الدولة العبريّة على أميركا. إذا كان من درس يمكن استخلاصه من حرب غزّة، فهذا الدرس يتلخّص بأن هذه الحرب غيّرت طبيعة العلاقة الأميركيّة – الإسرائيليّة. ستكون حاجة إلى بعض الوقت للتأكد من ذلك بالملموس وذلك على الرغم من إقتراب موعد الانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة في الخامس نت تشرين الثاني – نوفمبر المقبل.

تذكر هذه الحرب بما حصل في العام 1956 عندما شاركت إسرائيل في العدوان الثلاثي على مصر إثر قرار جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس. وقتذاك، سيطر البريطانيون والفرنسيون على قناة السويس فيما احتلّت إسرائيل سيناء بكاملها. كانت كلمة واحدة من الرئيس الأميركي دوايت إيزنهاور كافيّة كي تنسحب بريطانيا وفرنسا وإسرائيل من كلّ الأراضي المصريّة التي احتلت وقتذاك. وضعت أميركا إسرائيل في حجمها الحقيقي.

ثمة من يعتبر أن ما حصل في العام 1956 استثناء. لكنّ العام 1990 وفّر مناسبة أخرى للتأكد من أن اميركا قادرة على ضبط إسرائيل متى شاءت ذلك فعلا. في ذلك العام، وبعد إحتلال الجيش العراقي للكويت، شاءت إسرائيل أن تكون جزءا من حرب تحرير الكويت. منعتها أميركا من ذلك. ذهبت إدارة جورج بوش الأب إلى حدّ إرسال بطاريات صواريخ «باتريوت» مع طواقم أميركيّة إلى إسرائيل كي تؤكد لها أن حرب تحرير الكويت ليست فرصة لإثبات إسرائيل قدرتها على ضرب العراق بمقدار ما أنّها فرصة كي تثبت أميركا دورها القيادي في المنطقة.

عاجلا أم آجلا، سيتبيّن أن حرب غزّة كشفت إسرائيل. كشفت خصوصا أنّ ليس في استطاعتها تجاوز الولايات المتحدة بأي شكل. أكثر من ذلك، ستكشف حرب غزّة مدى الحاجة إلى مشروع سياسي لما بعد الحرب، مشروع مبني على خيار الدولة الفلسطينية. يظلّ السؤال من سيشارك في هذا المشروع الذي سيتبلور في إطار مؤتمر دولي بدأت تتحدث عنه أوروبا علنا…

خيرالله خيرالله

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.