ذكرى استشهاد الرئيس رفيق الحريري: لقاء الوحدة في مواجهة التحديات

8

بقلم د. ابراهيم العرب

في الرابع عشر من شباط من كل عام، يفتح اللبنانيون جرحاً غائراً في ذاكرة الوطن، ويستعيدون لحظة اغتيال رجلٍ لم يكن مجرد رئيس وزراء، بل كان مشروع دولة، ورمزاً للحلم اللبناني الطموح. إنها ذكرى اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، الذي جعل من لبنان قصة نجاح في زمن كانت فيه بيروت تُزهر أملاً، وتُضيء لياليها ثقافةً، وتنهض من تحت ركام الحرب لتصبح واحةً اقتصاديةً وسياحيةً تضاهي كبريات المدن العالمية.

رفيق الحريري: رجل الدولة وباني المستقبل

لم يكن رفيق الحريري سياسياً تقليدياً، بل كان رجل دولة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. آمن أن الاستثمار في الإنسان هو السبيل الوحيد للنهوض، فأنشأ مؤسساتٍ تعليميةً موّل عبرها تعليم آلاف الطلاب في أرقى الجامعات، مقدّماً لهم فرصةً كانت تبدو للكثيرين حلماً بعيد المنال. كما سعى إلى تحويل لبنان إلى مركز مالي وسياحي متقدّم، فكان صاحب رؤية اقتصادية متكاملة، أطلق من خلالها مشاريع عمرانية عملاقة، جعلت بيروت تستعيد مجدها كعاصمة الحياة والحضارة.

لم تكن بيروت في زمنه مجرد مدينة، بل كانت عاصمة نابضة، تملأها الحركة والنشاط. كانت الفنادق مكتظةً، والمقاهي تعجّ بالناس، والأسواق التجارية تستقبل السياح من كل حدبٍ وصوب. لقد كان لبنان، في نظر الحريري، أكبر من جغرافيته الضيقة، وأوسع من طوائفه المتناحرة، وأعمق من خلافاته السياسية. كان يرى فيه مشروعاً عربياً ودولياً، يرتبط بالاقتصاد العالمي، ويجذب الاستثمارات، ليصبح واحةً مشرقةً وسط صحراء الأزمات التي تحيط به.

اغتيال الحريري: زلزالٌ سياسيٌ غيّر وجه لبنان

لكن هذا الحلم تعرّض لطعنةٍ غادرةٍ في وضح النهار، يوم 14 شباط 2005، حين دوّى انفجارٌ ضخمٌ في قلب بيروت، لم يكن مجرّد عملية اغتيالٍ لشخص، بل كان محاولةً لاغتيال وطنٍ بأكمله. كانت تلك اللحظة نقطة تحوّلٍ كبرى في تاريخ لبنان الحديث، إذ أعقبتها تداعيات سياسية وأمنية كبرى، أدّت إلى انسحاب القوات السورية من لبنان، وانقسامٍ سياسيٍ حادٍ ما زالت تداعياته مستمرةً حتى اليوم.

رحل الحريري، لكنه ترك فراغاً هائلاً لم يُملأ حتى اللحظة. فبعد استشهاده، تراجعت المشاريع الكبرى، وضعفت حركة الاستثمار، وعاد لبنان إلى دائرة الأزمات الخانقة. آلاف الطلاب الذين كان يتكفّل بتعليمهم وجدوا أنفسهم أمام مستقبلٍ غامض، والمساعدات الصحية والاجتماعية التي كانت تُقدَّم للفقراء توقفت أو تضاءلت، ليشعر اللبنانيون أكثر من أي وقتٍ مضى بحجم الخسارة التي لحقت بهم.

ذكرى 14 شباط: نداءٌ للوحدة في مواجهة التحديات

اليوم، وبعد مرور تسعة عشر عاماً على استشهاد الرئيس الحريري، تأتي الذكرى ليس فقط لاستحضار الماضي، بل أيضاً لاستخلاص العِبر، ولتأكيد أن لبنان الذي حلم به لم يمت، بل ما زال حياً في وجدان أبنائه. إنها لحظةٌ لتجديد العهد مع مشروع بناء الدولة، واستعادة القيم التي أرساها، وفي مقدمتها ثقافة الحوار والانفتاح والتسامح، بعيداً عن منطق الإقصاء والهيمنة والتفرّد.

إن 14 شباط ليس مجرد ذكرى، بل محطةٌ لإعادة التأكيد على أن لبنان لا يُدار إلا بالتوافق، ولا يُبنى إلا بوحدة أبنائه. ففي وقتٍ يواجه فيه الوطن أزماتٍ اقتصاديةً وسياسيةً غير مسبوقة، بات لزاماً على الجميع أن يدركوا أن الانقسام لا يؤدي إلا إلى مزيدٍ من الخراب، وأن السبيل الوحيد للخروج من النفق المظلم هو استلهام تجربة رفيق الحريري في تحويل الأزمات إلى فرص، والانطلاق مجدداً نحو بناء لبنان الذي يستحقه أبناؤه.

بيروت تفتقدك يا رفيق.. لكنك باقٍ في قلوبنا

في ذكرى استشهاد الحريري، يتوافد اللبنانيون إلى ضريحه، ليس فقط للتعبير عن الحزن، بل لتأكيد أن نهجه لا يزال حياً، وأن الأمل بلبنان المزدهر لم ينطفئ رغم كل العواصف. بيروت التي شيّدها الحريري على أسس الحداثة ما زالت تقاوم، تنتظر من يعيد لها روحها، ومن يحمل راية الإعمار من جديد.

فلنجعل من هذا اليوم وقفةً صادقةً مع الذات، ولنُعلن بصوتٍ واحد أن لبنان الحريري لم يمت، بل يسكن في ضمير كل لبنانيٍ حرٍ يؤمن بالدولة والمؤسسات، ويطمح إلى بناء وطنٍ سيدٍ مستقلٍ تسوده العدالة والمساواة.

14 شباط: رسالة أملٍ ومستقبلٍ واعد

اليوم، أكثر من أي وقتٍ مضى، نحن بحاجة إلى أن نكون “يداً واحدة”، كما أراد الشهيد رحمه الله. يدٌ تبني، ويدٌ تحمي، ويدٌ تتمسّك بجذوة الأمل. فليكن 14 شباط يوماً نرفع فيه الصوت عالياً: لبنان يستحق الحياة، ونحن من سيكتب له فصلاً جديداً من النهوض والانتصار مع دولة الرئيس الشيخ سعد الحريري الذي نتمنى عودته على أحر من الجمر.

د. ابراهيم العرب

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.