دروس من انتفاضة جعجع لرفاق باسيل
بقلم جان عزيز
«اساس ميديا»
قبل يومين استقال إبراهيم كنعان من تيّار جبران باسيل.
قبلَه استقال زميله سيمون أبي رميا أيضاً. قبلهما طرد جبران نائبين آخرين.
التداعيات تتوالى. والمسألة ليست أشخاصاً أو مواقع. بل أعمق وأخطر ممّا يدرك لاعبوها أو بيادقها.
ميشال عون متورّط وموَرَّط في قلب اللعبة.
وإذ بشكلٍ متزامن مرّت أمس أيضاً 40 سنة بالتمام على غياب بيار الجميّل، “الرئيس المؤسّس”.
التاريخ أحياناً لا يتلهّى بتواريخه. بل يختارها قصداً لتوجيه العِبر والدروس.
خصوصاً للجاهلين في التاريخ، أو الطارئين عليه.
نعم ثمّة سلسلة من الدروس التي على جبران باسيل، كما على معارضيه، أن يتعلّموها من هذه الأربعين.
ذلك أنّ المماثلة بين أحداث عامَي 1984 و2024، متطابقة إلى حدّ الاستنساخ، مع تعديلات طفيفة في الأبعاد.
يومها كان المسيحيون في حالة إحباط. بعد سلسلةٍ من النكسات والهزائم. حرب الجبل في أيلول 1983. سقوط بيروت في 6 شباط 1984. بعدها سقوط الشحّار الغربي وعودة الكلام عن “حلّ عسكري نهائيّ وشيك” للأزمة اللبنانية.
طبعاً ترافق ذلك مع بداية انهيار نقديّ، وتخلٍّ غربي ودولي، وعودة الجيش السوري تدريجياً لاحتلال البلاد.
اليوم، الإحباط لبنانيٌّ عامّ. السُّنّة بلا قيادة. المسيحيون بلا مشروع. الدروز بين القلق والقلق. “الثوريون” ما زالوا في صدمةِ خيبة 17 تشرين وتحالف الأضداد ضدّهم. الشيعة في حالةٍ من “التناقض الشعوري والإدراكي المتزامن” (ambivalence) بين تعبيرات عن أكثر من فائض قوّة، وبين إحساسٍ بأقسى من فائض الخوف على الغد، بمواجهة أعداء متخيّلين من ستّ جهات الفضاء!
هي أزمة لبنانية أكبر بكثير من أزمة المسيحيين قبل 40 سنة. يكفيها أنّها تُوّجت بأكبر انهيار نقدي ماليّ اقتصادي واجتماعي في تاريخ لبنان، ثمّ بأكبر تفجير دمّر العاصمة، من مرفئها حتى ما بقي من هويّة ودور ووظيفة وأفق.
1984: كوارث… بعد بشير
سنة 1984، زاد في المعاناة المسيحية الانفصامية أنّ تلك الكوارث تحقّقت بعد أقلّ من عامين على حلم البشير. وفي ظلّ “العهد القويّ” برئاسة أمين الجميّل، الذي وُلد من “تضحية بشير الاستشهادية”.
سنة 2024، المعاناة اللبنانية مضاعفة لأنّها مضروبة تماماً بأرقام آمال اللبنانيين وتوقّعاتهم وترقّبهم من “العهد الأقوى”، الذي جاء من انتظاراتهم 40 سنة، على وعود بأنّه حين يصل “الجنرال” إلى الرئاسة “سيتعبُ هو وسيرتاح اللبنانيون”!
في المرّتين، قبل 40 سنة واليوم، تولّدت من تلك المآسي حالةٌ من الإحباط والتململ والقلق، والشكّ والتشكيك، والخوف والتخويف… بحيث لا يبقى مقياسٌ في الأشخاص، ولا مرجعية في الشأن العامّ فوق الشبهات. وهو ما يشكّل عمليّاً البذور الأولى لحالة رفضٍ ما، عصيان أو شغب أو انتفاضة أو ثورة أو سواها من تسمياتٍ، لتلك الحالة النفسية والواقعية، الفردية والجماعية الحقيقية والعميقة.
لكنْ سنة 1984، ظلَّ قائماً فوق تلك الحالة، وخصوصاً على مستوى مثلّث الرئاسة وحزب الكتائب و”القوات اللبنانية”، ضابطٌ معنويٌّ ضامنٌ كبير، اسمه بيار الجميّل.
تماماً كما كان يُفترض أن يكون وجود ميشال عون، مجسّداً لدور هذا الضابط المعنوي والأدبي نفسه، في حالته.
أزمة غياب “الضابط الكبير”
حتى جاء فجأة يوم 29 آب 1984. غاب بيار الجميّل. فأزيلَ السقفُ الجامع فوراً. وبدأت بالظهور كلّ الأزمات.
بعد أشهر قليلة كان الاستحقاق الأوّل، مع انتخابات رئاسة المجلس النيابي. أراد أمين الجميّل يومها الانسجام مع خيارات المرحلة المنبثقة من مؤتمرَي جنيف ولوزان، وقيام حكومة رشيد كرامي. فقرّر تأييد حسين الحسيني بمواجهة كامل الأسعد.
اعترض نائبان كتائبيان عريقان كبيران: إدمون رزق ولويس بو شرف. فكان أوّل انشقاق في “المثلّث الجميّليّ”. قرّر حزب الكتائب فصل النائبين – العَلَمين التاريخيَّين. فتزامن الفصل مع استقالتهما. وبدأت السّبحة تكرّ.
سنة 2024، ظهر الخلاف المكتوم والمكبوت، عند محطّة الانتخابات الرئاسية، في جلسة 14 حزيران 2023. التقى باسيل يومها مع القوى المعارضة على خيار وسطيّ معارض لمرشّح الحزب. فقيلَ إنّ مجموعة من نوّابه لم يلتزموا. فاندلعت الأزمة.
سنة 1984، وبعد أيام على أزمة انتخابات رئاسة المجلس النيابي، بدا أنّ مسلسل الإمساك بالمثلّث القيادي مستمرّ. أُزيح فادي إفرام من قيادة “القوات”، خلفاً لبشير. وصار فؤاد أبو ناضر قائداً. ظُلم الرجل كثيراً لمجرّد توقيت تعيينه وآليّته والنسب العائلي والانطباع الكامن بأنّه مجرّد أداة في مسلسل الإطباق على مفاصل الزعامة والمجتمع من قبل فريق أمين الجميّل.
تفرّد جبران… وانتفاضة جعجع
سنة 2024، أكمل جبران بعد أزمة جلسة 14 حزيران مسلسل تعديلاته “الرئاسية” لنظام تيّاره الداخلي. فبدا كأنّه يحضّر لضرب مَن بقي من معارضيه عبر ربط آليّة الاختيار للمواقع العامّة من نيابة ووزارة بشخصه، كما عبر حصر آليّة المساءلة والمحاسبة بعمّه في رئاسة ما يُسمّى “مجلس حكماء”، وفي أكثر اللحظات حاجةً مصيريةً إلى مجلس يجمع ولا يقمع، وإلى حكمةٍ ما.
نهاية سنة 1984 بدت الأمور تنزلق بسرعة إلى صدام محتوم. بعد أشهر قليلة، جاءت أزمة حاجز البربارة. فكانت الشرارة. رفض سمير جعجع التنازل. فصلَه حزب الكتائب. فانطلقت انتفاضة 12 آذار وصارت واقعاً… وانتصرت، مؤقّتاً أو مرحلياً وبأثمان، وبكثير من الالتباسات المتروكة لكتابة التاريخ.
المهمّ في هذه المماثلة المقارنة بين أحداث 40 عاماً أمران اثنان أساسيّان وضروريان للبحث الآن.
أوّلاً، إنّ سلسلة أحداث 1984 ربّما ما كانت لتبدأ لولا غياب بيار الجميّل. وهذا معطى أساسي في فهم التطوّرات الراهنة.
ذلك أنّ العارفين بالنيّات والبواطن يقولون إنّ معارضي باسيل كانوا يناورون لا غير بانتظار لحظة مطابقة لغياب الجميّل المؤسّس الكبير.
وقيل إنّ عون وصهره كانا يدركان ذلك تمام الإدراك، فقرّرا توجيه ضربة استباقية لهم، مستفيدين من آخر ما بقي من الجنرال من قوّة وحضور.
ثانياً، إنّ ما حصل بين خريف 1984 وربيع 1985 مسيحيّاً ما كان لينجح بالتأكيد لولا التموضع السياسي العالي السقف الذي اتّخذته لنفسها حركة “الانتفاضة” الثلاثية يومها، بتوقيع جعجع وإيلي حبيقة، وثالثهما كريم بقرادوني، الشاهد القادر على الترجمة بلغتَي الرفيقين اللدودين، كما بلغات أخرى كثيرة.
جاءت الانتفاضة من على يمين أمين الجميّل، لا من على يساره، بالمعنى السياسي للخطاب المسيحي آنذاك، وبموقف أعلى من موقفه لا أدنى، وبلغةٍ أكثر راديكالية لا أشدّ ميوعة أو تكتكة.
أين الموقف السّياسيّ لمعارضي باسيل؟
أمّا معارضو باسيل اليوم فيبدون حتى اللحظة على الأقلّ معطوبين جدّاً لهذه الناحية. لا موقف سياسياً لهم ممّا يحصل. ولا نصّ واحداً ولا تصريح عن الجنوب ولا عن بيروت ولا عن أيّ ملفّ وطني أساسي.
الأسوأ أنّ بعضهم على الأقلّ متّهم بالالتحاق بموقف الحزب، نيابياً وحتى رئاسياً. فيما عون وباسيل “يُمنتعان” مع “الحزب” منذ غزة، متصلّبين في شعارات وطنية تحريريّة!
هذا فضلاً عن كون معارضي باسيل معطوبين أصلاً في “عونيّة” بعضهم. فبينهم من لا علاقة له بعون. وما زال أحد نواب رئيس التيار الحاليين يروي بالتفصيل المملّ سلسلة الشتائم التي تبادلها معه في لقائهما الأوّل. طبعاً في الزمن السوري،
قبل أن يجلوَ الاحتلال ويعود الجنرال ويلملم الكثير من فلول المحتلّين بعدما اكتشف أحدُهم فيهم حجمَ “عطاءاتهم الفكرية”!!
هذا فضلاً عن أعطابٍ أخرى في المعارضين يعرفونها هم، ويعرفون أنّ العارفين يعرفونها!
هكذا يبدو المشهد العوني مؤلماً مؤسفاً في لحظة قد تقتضي تضافر كلّ اللبنانيين لمحاولة إنقاذ وطن.
هكذا تبدو شروط نجاح الانتفاضة على باسيل مثقِلة على معارضيه، إلا إذا جرؤوا ووقفوا وخرجوا بموقفٍ وأخرجوا خوارجهم.
وإلا إذا عاد جبران إلى لحظة انتخابات حكمت ديب في دائرة بعبدا- عاليه في أيلول 2003، يوم كانت مهمّته جمعَ تبرّعات العونيين المؤمنين المناضلين لخوض المعركة. وكان جبران يجمعها بفلس الأرملة، بالقرش والملّيم، من بشرٍ طيّبين، لا من أثرياء مرتكبين من كاريش حتى ما بعد الخليج.
بيار الجميّل: لم نحفظ اسم صهره…
تبقى ملاحظة أخيرة للطرفين معاً: إنّنا بعد 40 سنة على غياب بيار الجميّل وسلسلة الانتفاضات والانقلابات.
وبعد دخول العنف إلى السياسة مرّات والوطن إلى الهيمنة الكاملة مرّات ومرّات… باسم مقاومةٍ أو ثورةٍ أو غيرهما.
بعد 40 سنة، نترحّمُ اليومَ 40 ألف مرّة على بيار الجميّل. فهو بعد نصف قرن في رئاسة أكبر حزب في تاريخ جماعته، لم نحفظ اسم زوجته. ولا طبعاً اسم صهرٍ له.
حتى رحل عن هذه الدنيا في يوم كيوم أمس الأوّل، وهو في ذروة زعامته لحزبه و”القوات” ولرئاسة الجمهورية، وهو مقيمٌ في شقّة من 150 متراً مربّعاً في منطقة الدورة، خلف المستشفى الذي أمضت فيه ابنته ردحاً من حياتها، راهبةً خادمةً للمرضى نذراً لوالدها وصلاةً له ولمن معه.
في الخلاصة، كنّا نتغنّى دوماً أنّ يسوع هو الثائر الأوّل في التاريخ؟!
نستغفرُك يا يسوع أكثر من 40 ألف مرّة!
جان عزيز